المفكر تيسير شيخ الارض والفحص عن اساس اليقين

المفكر تيسير شيخ الارض والفحص عن اساس اليقين

 

بقلم: ا. د. ابراهيم العاتي(*)

الاستاذ تيسيرشيخ الارض مفكر عربي سوري بارز، وباحث معروف في الحقل الفلسفي في الوطن العربي منذ الخمسينيات ، يتضح ذلك من ثراء مؤلفاته التي غطت مساحة واسعة من عصور الفلسفة واعلامها ومشكلاتها فضلاً عن ترجماته الرصينة ومقالاته الكثيرة التي انصبت بوجه خاص على الموضوعات الفلسفية والتربوية. ويتضح ذلك ايضاً من عمله الدؤوب وصبره على البحث في مناطق وعرة ومشكلات فلسفية شائكة قلما يتطرق اليها الباحثون.
و(الفحص عن اساس اليقين) يمثل جزءاً من مشروع فلسفي شامل يتناول فيه بالنقد والتقويم مذاهب الفلسفة ومناهجها، ونقطة الانطلاق لكل من الفلسفة والعلم ليخلص بعدها الى اقامة الفلسفة بمعناها الصحيح، لا معناها الذي يقدمه تاريخ الفلسفة.
فتاريخ الفلسفة رغم اهميته انتهى الى نتائج جد خطيرة، أولها: انه باستخدامه المنهج التحليلي العقلي ادى الى قيام فكر مجرد لا وجود له في الاعيان وانما في الاذهان، ففصل بذلك الذهني عن العيني. والثانية: انه باحتوائه لحصيلة ضخمة من الفكر المجرد اتاح انفصال العلوم الجزئية عن الفلسفة التي كانت تتخذ لنفسها صفة العلم الكلي، ومازال ما ندعوه بالفكر الفلسفي يولد لنا بمنهجه التحليلي العقلي الذي ما زال ملتزما به افكارا مجردة متزايدة تؤدي بين حين وحين اما الى نشوء علوم جزئية جديدة من الفلسفة او تفرع العلوم الجزئية الى علوم اضيق نطاقا.
والباحث شيخ الأرض يرى ان العلم لا يمكن ان يستقل استقلالاً كليا عن الفلسفة، فقد توجد علوم ولكن ضمن نظرة فلسفية تشملها، وهذا يعني ان الحقيقة الفلسفية هي الأولى وان الحقائق العلمية هي نتيجة تحليل هذه الحقيقة الاولى.
ولكي تتحقق هذه النتيجة لابد ان تنزل الفلسفة من سماء التجريد الى ارض التشخيص وذلك برد التصورات المجردة الى أصلها الوجودي. ويرد المنهج الفلسفي والمذهب الفلسفي الى حقيقة اولى تشملهما معا هي الموقف الفلسفي.
هذه الآراء التي تضمنها كتابه (دراسات فلسفية) الذي صدر في اوائل السبعينات، تشكل بداية الموقف الفلسفي الذي سينطلق منه الاستاذ شيخ الارض في كتابه (الفحص عن اساس اليقين) والحق ان مشكلة اليقين قد شغلت العقل الانساني منذ أقدم العصور، وحاول الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم اجتياز بحار الشك وصولاً الى شواطئ اليقين، اللهم في حالات نادرة كان الشك فيها مقصوداً لذاته كما هو الحال عند السفسطائيين.
ومنذ القرن اتاسع عشر وحتى القرن العشرين بدأت المشكلة تطرح بشكل جديد بعض الشيء يقوم على اعتبار المعرفة العلمية يقينية لأنها تعتمد على الملاحظة والتجريب، ونتائجها إجماعية، بينما المعرفة الفلسفية غير يقينية لأنها تعتمد التفكير والتأمل ونتائجها خلافية!!
يرد المؤلف على ذلك بأن الملاحظة والتجريب يتعلقان بارتباط النظر بالعمل وهي مسألة فلسفية في المقام الأول، كما ان العلم يعتمد على التجريب العملي للتحقق من صحة التفكير النظري ولذا فهو لا يختلف عن الفلسفة الا من ناحية الجزئية والكلية. لذلك ينبه الباحث دوماً الى ان وراء العلم وحقائقه الجزئية توجد نظرة اكثر شمولا، غايتها رؤية الانسجام في الحقائق العلمية، وهي تتحقق متدرجة في شمولها فتكون في فروع العلوم المختلفة في بادئ الأمر، ثم في كل علم من بعد لكي تصل الى اقصى شمولها في العلم الكلي او الفلسفة.
ويميز المؤلف بشكل دقيق بين موضوع العلم وموضوع الفلسفة، فيرى ان التجريد هو موضوع العلم بينما التشخيص هو موضوع الفلسفة، وبما اننا لا نستطيع اقامة اليقين على التجريد كان لابد من اقامته على التشخيص، وهذا يعني ان العلوم الجزئية تستمد يقينها من يقين الفلسفة وليس العكس، وبذا لا تكون الفلسفة مجرد تابع للفكر العلمي بل ستكون هي المحك الذي يلجأ اليه كل علم ليتأكد انه على الطريق الصحيح.
قد نختلف مع الكاتب في رده جميع قضايا الفلسفة الى الوجود المشخص على اساس ان المشخص هو الكلي ولكننا هل نستطيع بلوغ الكلي ونحن منغمسون في المشخص (وجوداً أو وجدانا)؟ وهل نستطيع الفصل بين المشخص وصيرورته التي تحيله الى موجودات جزئية فنرجع ثانية الى عالم الاجزاء ولن نستطيع بلوغ الكلي؟… ولكننا نتفق مع الباحث في ايمانه العميق بدور الفلسفة في مجال التفكير الانساني، على عكس تلك التيارات التي ضيقت من نطاق الفلسفة او جعلتها على هامش العلم، كالوضعية وغيرها، ونتفق معه ايضاً في تحديده نقطة البداية لكل من العلم والفلسفة بحيث تصبح الفلسفة هي الملهمة للعلم والمرجع الذي يلجأ اليه. ونتفق معه ايضاً في محاولته ردم الهوة الواسعة التي اقامها الفلاسفة بين الذات والموضوع. غير ان العرض الموسع لنقاط الاتفاق والاختلاف يحتاج الى بحث خاص ودراسة منفصلة.
ويبقى الموضوع المطروح على بساط البحث، عملاً فلسفياً ممتازا، يثير في ذهن القارئ قضايا ومشكلات على جانب كبير من الخطورة والاهمية، فهو يدعو الى اعادة النظر في كل ما تعارف عليه الفلاسفة من قدماء ومحدثين، من قضايا ومسلمات صادراً في ذلك عن رؤية متميزة وروح نقدية لا تشعر بالوجل امام اسماء لها بريق في عالم الفلسفة مادام الامر متعلقاً بتحري وطلب الحقيقة، وهي غاية كل عمل فلسفي اصيل، فمن الوهلة الاولى نلاحظ ان تيسير شيخ الارض يقدم جهدا ابداعيا وتصوراً فلسفياً خاصا، يمثل بالنسبة له خلاصة تجربة فلسفية ومعاناة عقلية ووجدانية امتدت لسنوات طويلة وليس مجرد امتداد لهذا المذهب الفلسفي الغربي او ذاك كما هو الحال مع الكثيرين ممن تزخر بهم الساحة الثقافية العربية، ومن هنا تكمن اهمية ما يطرحه وضرورته للباحث في ميادين الفكر، وللقارئ شرقيا كان ام غربياً.

(*) عميد الدراسات العليا- الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية (لندن)

(Visited 647 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *