الذكاء الاصطناعي يسأل: من الكاتب؟

الكتابة الحقيقية ليست جملة منضبطة، بل عودة الإنسان إلى نفسه عبر اللغة. وحين يغيب الألم والتردد والجرأة، يغيب ما يمنح النص حياته الداخلية.

كتب المحرر الثقافي للمستقل

كان السؤال القديم عن الكتابة يدور غالباً حول مهارة صاحبها: هل يحسن بناء الجملة؟ هل يملك الإيقاع؟ هل يستطيع أن يضبط اللغة بحيث تصير امتداداً لفكره؟ لكن هذا السؤال يفقد وزنه اليوم أمام واقع جديد يتجاوز قدرة البشر على الاحتفاظ بامتيازهم اللغوي. فالجملة التي كانت تحتاج زمناً وقلقاً وتجريباً صار يمكن إنتاجها خلال لحظات من خلال أداة رقمية لا تعرف التردد ولا الإرهاق. وهكذا لم يعد السؤال: كيف نكتب؟ بل: ما الذي يبقى من الكتابة حين تصبح المهارة متاحة لكل أحد؟ وما الذي يميّز الكاتب حقاً عندما يستطيع برنامج أن يكتب مثله، وربما أجمل منه شكلاً؟

هذا التحول يكشف توتراً أعمق: أن الكتابة لم تكن يوماً مجرد براعة لغوية. فالآلة تتقن ما يمكن قياسه: سلامة التركيب، دقة التعبير، اتساق العبارة، بل وحتى المحاكاة الأسلوبية. وهذا يستدعي اعترافاً صريحاً بأن الذكاء الاصطناعي تفوّق في الصنعة ذاتها، وأن من يختزل الكتابة في الجانب الفني سيجد نفسه في موقع أضعف من برنامج لا يخطئ في نحو ولا يفقد السيطرة على إيقاع. لكن هذا الاعتراف ليس نهاية القصة، بل بدايتها، لأن الكتابة — في عمقها — ليست نتاج مهارة، بل أثر تجربة. وما لا تجربة له لا يستطيع خلق معنى، مهما أحسن ترتيب الكلمات

فالآلة تستطيع أن تصف الحزن، لكنها لا تشعر بثقله، وتكتب عن الخسارة دون أن تفقد شيئاً، وتنسج خطاباً عن الحرية دون أن يخوض صاحبها صراعاً من أجلها. الكتابة الحقيقية ليست جملة منضبطة، بل عودة الإنسان إلى نفسه عبر اللغة. وحين يغيب الألم والتردد والجرأة، يغيب ما يمنح النص حياته الداخلية. لذلك، فإن ما تعجز عنه الآلة ليس اللغة، بل ما يتجاوز اللغة: التحول الذي يحدث في وعي الكاتب حين يكتب، والمسؤولية الأخلاقية التي تصاحب الكلمة حين تُقال، والثمن الذي يُدفع أحياناً بسببها.

ومن هنا، يظهر أثر الذكاء الاصطناعي بوصفه غربالاً لا خصماً. فهو لا يهدد الكاتب الأصيل، بل الكاتب الذي لم يكن يملك سوى الصنعة. كثير من النصوص التي كانت تتزيّن بالبلاغة أو تعيد إنتاج أفكار مستهلكة ستختفي بهدوء، لأنها لم تكن تحمل ضرورة تجعل وجودها مختلفاً عن نص يولّده برنامج. أما النصوص التي تنبع من تجربة، أو من رؤية حقيقية للعالم، فلن تجد لها بديلاً، لأن أصلها ليس اللغة بل الحياة نفسها. وما يُكتب بلا حياة يبقى قابلاً للاستبدال.

ويتغير معنى الكاتب تبعاً لهذا التحول. فالكاتب لم يعد ذاك الذي يعرف كيف يكتب، بل من يملك ما يستحق أن يُكتب. يصبح صاحب موقف، لا صاحب أسلوب فقط؛ حامل تجربة، لا حامل إيقاع؛ منتِج معنى، لا منتِج جمل. وفي زمن تصبح فيه القدرة على الصياغة مهارة مشتركة بين البشر والآلات، يبقى الفارق في ما لا يمكن تعلّمه أو تقليده: التجربة التي تُختصر في نص، والجرأة التي تجعل الكتابة فعلاً وجودياً لا مهمة لغوية.

ويبدو هذا واضحاً خصوصاً في السياق العربي، حيث لطالما احتمت بعض الكتابات ببلاغة جاهزة أو لغة متخشبة لا تستند إلى رؤية. هذه النصوص ستجد نفسها أقرب إلى نصوص الآلة منها إلى الأدب، لأن الفارق بينهما لم يكن إلا زخرفة يمكن لأي نموذج أن يعيد إنتاجها. أما الكتابة التي تنبثق من حياة معقّدة — من سؤال أو جرح أو وعي يريد أن يفسر العالم — فلا تستطيع أي آلة أن تنتجها، لأن مصدرها ليس المخزون اللغوي، بل التجربة البشرية بكل تعقيدها.

هكذا يصبح السؤال الحقيقي: ليس هل تستطيع الآلة أن تكتب، فهي تستطيع، بل هل يملك الكاتب ما يجعل كتابته غير قابلة للاستنساخ؟ في هذا العصر، لا يُمتحن الكاتب بقدرته على صياغة الجملة، بل بقدرته على حمل معناها. والكتابة التي لا تكلّف صاحبها شيئاً لن تغيّر قارئها في شيء. وحين تتساوى القدرة التقنية، يبرز جوهر الكتابة: ذلك القدر الخفي من الحياة، من الصراع الداخلي، من الرغبة في الفهم، الذي لا يُختزل في خوارزمية ولا يُبرمج.

لهذا، قد نصل إلى زمن تستطيع فيه الآلة أن تكتب نصوصاً كاملة، لكنها لن تستطيع أن تكتب نصاً واحداً يغيّر صاحبه. أما الكاتب الحقيقي، فهو الذي يكتب لأن الكتابة ضرورة وليست خياراً، ولأن الصمت بالنسبة له أشدّ عبئاً من الجملة التي يبحث عنها. وحين تصبح الجملة سهلة، يصبح المعنى الامتحان الوحيد الذي لا تجتازه إلا الحياة نفسها.

 


مشاركة المقال :