الفلسفة الحضارية / محمد عبد الجبار الشبوط

محمد عبد الجبار الشبوط

يشهد العالم في العقود الأخيرة انهيارًا متسارعًا في المنظومات التي حكمت الحياة البشرية منذ قرون،فالنظام السياسي يعاني اهتزازًا، والاقتصاد يزداد هشاشة، والعلاقات الاجتماعية تتآكل تحت ضغطالفردانية المفرطة، والمنظومات القيمية تتعرض لارتباك عميق بفعل التكنولوجيا والتغيرات السريعة. وفي وسط هذا الاضطراب الكبير تبحث الإنسانية عن رؤية جديدة تمنحها القدرة على فهم العالم ومعنىالوجود وصياغة مستقبل ممكن. هنا تظهر «الفلسفة الحضارية» كتعبير عن الحاجة إلى إطار فكريجديد، قادر على تفسير الواقع من جهة، وقيادة حركة الارتقاء الإنساني من جهة أخرى، دون أن يقع فيأسر الأيديولوجيا أو يتقوقع في الماضي، ودون أن يذوب في الفلسفات المادية التي اختزلت الإنسان فيبعده البيولوجي أو الاقتصادي.

الفلسفة الحضارية، في جوهرها، هي مشروع فكري شامل يدرس الإنسان والعالم والدولة والمجتمعوالتاريخ تحت معيار واحد هو «الارتقاء». إنها فلسفة تنطلق من الإنسان كقيمة وغاية، وترى أن حضارةالإنسان ليست حدثًا تاريخيًا يبدأ ويكتمل وينتهي، بل عملية مستمرة تتحرك باتجاه الأفضل كلما تهيأتشروطها القيمية والعقلية والاجتماعية. وبهذا المعنى، الفلسفة الحضارية ليست وصفًا للظواهر فحسب،بل هي محاولة لفهم القوانين التي تحكم حركة التاريخ، وصياغتها في منهج يساعد الإنسان على أن يعيشحياة جيدة، وأن يبني جماعة متعاونة قادرة على صناعة المستقبل بدل اجترار الماضي أو الدوران في فراغاللحظة.

وتختلف الفلسفة الحضارية عن الفلسفات التقليدية في أنها لا تبدأ من مبادئ ميتافيزيقية مجردة، ولامن نظريات وجودية مغلقة، بل من الإنسان نفسه بوصفه الكائن القادر على الإنتاج، والمتلقي للقيم،والفاعل في التاريخ، والخاضع في الوقت نفسه لقانون الارتقاء الذي يشكل القاعدة الكونية لحركته. ولهذافهي لا تفصل العلم عن القيم، ولا تفصل السياسة عن الأخلاق، ولا تفصل الحرية عن المسؤولية، بلتعتبر هذه العناصر نظامًا واحدًا يكتمل بعضه ببعض، ويشكل القاعدة المعيارية للدولة الحضاريةالحديثة التي تمثل التعبير السياسي عن الرؤية الحضارية، كما يمثل الفهم الحضاري للقرآن تعبيرهاالروحي والمعرفي.

وتنبع ضرورة هذا الاتجاه من أن العالم اليوم يقف بين خيارين: إما استمرار الانهيار ودخول الإنسانية فيفوضى قيمية واجتماعية واقتصادية لا تعرف حدودًا، وإما إنتاج رؤية جديدة تُعيد ترتيب العلاقة بينالإنسان والكون والقيم والدولة. والفلسفة الحضارية تقدم هذا البديل لأنها تجمع بين وضوح الغايةواتساع الأفق؛ فهي لا تتعامل مع الإنسان كوسيلة، ولا تُعيد إنتاج الأيديولوجيات المغلقة، ولا تقف أسيرةالماضي، بل تنطلق من حقيقة أن الحضارة هي مشروع إنساني عالمي يقوم على التعاون والإبداع والحريةوالعدالة والمسؤولية، وأن النهضة ليست حدثًا وطنيًا أو قوميًا، بل تحولٌ في وعي الإنسان وسلوكهونظرته إلى نفسه والآخر والعالم.

ولا تدّعي الفلسفة الحضارية أنها قطيعة مع الفكر الإنساني، بل تواصل واعٍ لمسار طويل، لكنها تضيفإليه عنصرين حاسمين: الأول هو إدخال «القانون الحضاري» في قلب الفلسفة بدل أن يبقى فكرةتاريخية أو اجتماعية هامشية؛ والثاني هو جعل القيم الاثنتي عشرة للدولة الحضارية الحديثة معيارًالتحليل الواقع وتوجيه المستقبل. بهذا تصبح الفلسفة الحضارية إطارًا معرفيًا قادرًا على تفسير الظواهر،لا بمعزل عن الإنسان، بل من خلال الإنسان، ولا بمعزل عن القيم، بل من خلال القيم، ولا بمعزل عنالعلم، بل من خلال العلم، بحيث تتكامل الأدوات العقلية مع البوصلة الأخلاقية لبناء رؤية جديدة للعالم.

إن الفلسفة الحضارية ليست مشروعًا نظريًا يضاف إلى رفوف الفكر، بل هي ولادة اتجاه جديد يتعامل معالإنسان بوصفه مشروعًا غير مكتمل، ويمنحه القدرة على أن يرى نفسه جزءًا من عملية كونية أكبر، وأنيفهم أن الارتقاء ليس شعارًا، بل قانونًا حاكمًا للتاريخ ولحركة الوعي والمجتمع والدولة. ومع أن هذاالاتجاه ما زال في طور التأسيس، فإن ملامحه أصبحت واضحة في الكتابات التي تجمع بين التحليلالاجتماعي، والنقد السياسي، والتفسير القيمي، والقراءة الحضارية للقرآن، والتي تشكلمجتمعةالأساس الفكري لنشوء مدرسة «الفلسفة الحضارية» كاتجاه جديد في الفكر العربي والإنساني.

وبهذا، تتجاوز الفلسفة الحضارية كونها مجموعة من الأفكار المتفرقة، لتصبح إطارًا يجيب عن السؤالالكبير الذي يواجه الإنسان اليوم: كيف نبني حياة صالحة في عالم مضطرب؟ وكيف نرتقي في زمنالانهيار؟ وكيف نُعيد إنتاج الدولة والمجتمع على أساس القيم لا المصالح؟ وهذه الأسئلة ليست ترفًافكريًا، بل ضرورة وجودية، والقدرة على الإجابة عنها هي التي تمنح الفلسفة الحضارية موقعها وشرعيتهابوصفها الاتجاه الذي يمكن أن يفتح أمام الإنسانية أفقًا جديدًا في رحلة الوعي والتاريخ.


مشاركة المقال :