محمد الكلابي
تحيّرت هذا الأسبوع، عن ماذا أكتب؟ الأخبار تتسارع بلا توقف، التحليلات تتكاثر، العناوين تتزاحم، ومع ذلك لا أحد يفهم حقاً ما الذي يحدث. كل حدث يولد ومعه نهايته، وكل تفسير يصل متأخراً. تركت كل ذلك جانباً، لأصغي للحيرة نفسها، فاكتشفت أن المشكلة ليست في الأحداث، بل فينا نحن.
المشكلة ليست أن العالم صار أعقد، بل أننا فقدنا القدرة على فهمه. سيل الصور والكلمات أنهك الحواس، وأربك الانتباه، وحوّل الانفعالات إلى ومضات قصيرة تختفي قبل أن نفهمها. لم يعد بيننا وبين ما يجري مسافة تسمح بالتفكير. ولسنا في أزمة معلومات، بل في أزمة إدراك. والسبب الأعمق أن الزمن نفسه لم يعد لنا.
لم يعد لدينا وقت لنفكر، ولا وقت لنشعر بعمق، ولا حتى وقت لنحوّل ما نعيشه إلى معنى. الحدث يسبق وعينا دائماً. نافذة الاستيعاب، وهي المدى الزمني الذي نحتاجه لنحوّل الواقعة إلى فهم، ضاقت حتى لم تعد تسمح إلا بالتقاط الومضات. نحن نرى العالم بوضوح، لكن من دون عمق، كما لو أننا نصوّره بعدسة تلتقط التفاصيل السطحية وتفقد البعد الحقيقي.
وهكذا تظهر الأعراض: شعور باهت يجعلنا نمرّ على الكوارث كأنها أخبار عادية، كلمات كبيرة تفقد معناها من كثرة الاستعمال مثل “الحقيقة” و”العدالة”، وغضب سريع يشتعل يوماً ويخمد في اليوم التالي. نحن لا نعيش الأحداث، بل الأحداث هي التي تسيطر علينا وتستهلكنا.
هذا ليس قدراً. هناك من يصنع هذه السرعة ويعيد تشكيل وعينا بها: منصات تُحوّل الوقت إلى وحدات انتباه للبيع، إعلام يقدّم الخبر كصدمة عابرة، وثقافة لحظة بلا جذور ولا أفق. النتيجة أن الفهم ينهار. الوعي الذي لا يملك مهلة لا يملك حكماً، ونحن بالفعل أبطأ من عصرنا.
ولأن العطب زمني، فالعلاج لا يكون بالمزيد من الأخبار، بل باستعادة الوقت. دقيقة واحدة من الصمت قبل أي حكم. إعادة صياغة الحدث بلغتنا مرتين: مرة وصفاً، ومرة تفسيراً. قراءة نص عميق واحد بدل عشرات الأخبار المتناثرة. أن نسأل أنفسنا: كم نحتاج لنحوّل الانفعال الأول إلى معنى يمكن الدفاع عنه؟ هذه ليست رفاهية، بل محاولة لإنقاذ وعينا من الانهيار.
سيُقال إن البطء ترف، لكن البطء هنا ضرورة للفهم والعدل. سيُقال إننا سنفقد السبق، لكن السبق بلا فهم مجرد سباق نحو الخطأ.
لست أكتب هذا لأنجو من الحيرة بمقال آخر، بل لأقول إن المقال نفسه لم يعد يكفي ما لم نُعِد الزمن إلى مكانه في وعينا. إنني أدعو إلى استعادة دقيقة واحدة لكل قرار، لكل غضب، لكل يقين يريد أن يُحكَم قبل أن يُفهَم. دقيقة واحدة فقط تُنتزع من ضجيج العالم وتُعاد إلى صمت الإنسان. في تلك الدقيقة تتسع نافذة الاستيعاب من جديد، يضعف عمى السرعة، وتستعيد اللغة معناها والمشاعر عمقها. ما يحدث اليوم ليس سقوط أنظمة فحسب، بل سقوط إنسان صار أبطأ من زمنه. لسنا ضحايا الأخبار، نحن ضحايا سرعتها. والخطر ليس هناك، بل في الفجوة بين ما يحدث وما نفهم. وحين تكبر هذه الفجوة، يسقط الإنسان من التاريخ وهو يظن أنه في قلبه.
