حماية الدولة الدستورية وتحصين المؤسسات القانونية
د. باسم محمد يونس
مع كل موسم انتخابي، تتجدّد أجواء السجال الدستوري والقانوني احياناً، والسياسي او الشخصي غالباً، حول من يحق له الترشّح من عدمه والظروف والاعتبارات التي يرتبط أهمها بالضمانات التي تحمي الإرادة الشعبية من اختراقات قد تمس جوهر الديمقراطية الناشئة في العراق. وأخيراً، تردد هذا النوع من النقاش بالتزامن مع اقتراب موعد انتخابات مجلس النواب النواب في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وتحديداً حول ما نُسب إلى الهيئة التمييزية القضائية المشرفة على قرارات الهيئة العليا للمساءلة والعدالة، بشأن عدولها عن بعض قراراتها السابقة التي أقصت مرشحين ينتمون إلى حزب البعث المنحل.
وإزاء واجب تحصين مؤسسات الدولة وتأصيل القواعد الدستورية والقانونيةالتي تتحرك وفقها، فإننا نؤكد ابتداءً قانونية إجراءات هيئة المساءلة والعدالة، وسلامة مسار الهيئة التمييزية القضائية سواء في قرارات العدول عن قرارات سابقة في بعض الحالات، باعتبار ذلك من جوهر العمل القضائي القائم على المراجعة والاجتهاد المشروع، او لجهة مراجعة واستكمال ملفات لم تكن مكتملة فيما سبق.
وعلى ذلك، من الجدير الإشارة الى التالي:
أولاً: الأسس الدستورية والقانونية التي تُرتّب التزامات الإقصاء السياسي: إذ تنص المادة (135) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على استمرار العمل بأحكام “هيئة اجتثاث البعث“ مع إعادة تسميتها إلى “الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة“. وبذلك، فإن الدستور منح الهيئة شرعية انتقالية –مؤسساتية، تُرتّب التزامات على الدولة في تصفية آثار النظام البائد، ضمن سقف القانون، وبما لا يتعارض مع الحقوق والحريات.
وقد تم تنظيم عمل الهيئة بموجب قانون رقم (10) لسنة 2008، الذي وضع ضوابط واضحة لتولي المناصب العليا والوظائف العامة. وجاء في المادة (6) منه ما يؤكد على إبعاد كل من احتل مواقع قيادية في الحزب المنحل، أو مارس دورًا في قمع الشعب العراقي، أو في الترويج لسياسات وفكر البعث الصدامي.
إن وجود هيئة قانونية وفق هذا الدور لا يتنافى مع اسس الديمقراطية، بل يحميها. فالديمقراطية الناجحة لا تعني إلغاء الذاكرة، بل في تجارب مشابهة شيدت على اساس مبدأ “العدالة الانتقالية“ الذي يضمن عدم عودة أدوات الأنظمة الشمولية عبر نوافذ دستورية. ومن هنا فإن دور الهيئة في تدقيق قوائم المرشحين الى الانتخابات هو دور قانوني وواجب وطني لا يرتبط بمعطيات سياسية مرحلية او تدافع انتخابي.
ثانياً: قرارات هيئة المساءلة والعدالة خارج التوقيتات السياسية: فالهيئة تستند في قراراتها إلى ملفات رسمية وبيانات موثقة يتم جمعها وتدقيقها من أوليات الحزب المحظور واوليات الاجهزة القمعية، وتراجع تلك الملفات مع مؤسسات الدولة ذات العلاقة، مثل الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وزارة الداخلية، والمؤسسات ألامنية والاستخباراتية، وديوان الرقابة المالية.
ومن خلال إجراءات مُحكمة، تُرسل الهيئة قوائمها الخاضعة للتدقيق إلىالجهات المعنية سواء المؤسسات التنفيذية المعنية بتدقيق موظفيها خصوصاً المرشحين الى المناصب العليا، او الى مفوضية الانتخابات حيث تأخذ الهيئة في الاعتبار التوقيتات الدستورية المحددة، وتمنح حق الطعن أمام الهيأة التمييزية القضائية خلال مدة قانونية محددة، بما يعزز من ضمانات العدالة.
ان توقيت قرارات المساءلة لا يُعد تدخلاً في الشأن الانتخابي، بل هو جزء من الفرز القانوني الذي يسبق التصويت للتمثيل الشعبي. فالديمقراطية لا تبدأ من صناديق الاقتراع، بل من تنظيفها من المرشحين غير المؤهلين قانونًا، وهذا جوهر الاستحقاق الدستوري الذي تمارسه الهيئة.
ثالثاً: استقلال الهيئة التمييزية القضائية وصحة عدولها : تشكلت الهيئة التمييزية القضائية الخاصة بالنظر في طعون المساءلة والعدالة بموجب أحكام القانون، وتتكوّن من قضاة محترفين يُرشحهم مجلس القضاء الأعلى، وتعملبإشراف مباشر من رئاسة محكمة التمييز الاتحادية.
وفي هذا الصدد فان عدول الهيئة التمييزية عن بعض القرارات السابقة، لا يُعد طعنًا في السياق القضائي، بل هو دليل مرونة قضائية عالية واستجابة للمعطيات الجديدة. فالعدالة لا تقوم على الجمود، بل على التقييم الدقيق والمراجعة المستمرة في ضوء المستجدات والوقائع التي قد تكون غابت سابقًا.
ففي حالات عديدة، قد يظهر مستند جديد، أو شهادة تميّز بين من كان عضوًا شكليًا في الحزب المنحل، وبين من كان مسؤولًا قياديًا ذا صلة بالجرائم أو سياسات القمع. و“العدول“ في هذه الحالة يكون بمثابة تصحيح لمسار وليستراجعاً عن المبدأ.
رابعاً: التمييز بين العضوية الشكلية والفاعلية الحزبية: فقد حرصت هيئة المسائلة والعدالة على هذا التمييز، كما استقرت أحكام الهيئة التمييزية على هذا المبدأ، فهي تتعامل مع كل حالة على أنها قضية مستقلة لا تخضع للسابقة القضائية، ومن هنا جاء مبدأ التمييز بين العضوية الشكلية في حزب البعث، والتي كانت في فترة من الزمن مفروضة على كثير من المهنيين والطلبة والموظفين، وبين الفاعلية الحزبية والقيادية التي كانت تنتج نفوذًا أو أثراءً غير مشروع أو أذى عامًا.
والعدالة لا تُفصل بالمطلقات، بل تُقاس بالمضمون. فمن انتمى للحزب المحظور من دون أن يمارس ادواراً تنظيمية أو أمنية أو قمعية، لا يُعامل كمن شارك في اتخاذ القرار أو نفّذ سياسات الترهيب والإقصاء او التعذيب.
وعلى ذلك، فإن قرار العدول القضائي لصالح أو ضد بعض المرشحين يعدُّ تفسيرًا أكثر دقة لقانون هيئة المساءلة والعدالة، بما يحمي الأبرياء من دون أن يبرّئ المجرمين. وهي مقاربة تُعلي من شأن العدالة كقيمة دستورية، لا كأداة انتقام سياسي.
خامساً: الحصانة القانونية لمؤسسات العدالة الانتقالية من التسييس: مؤسفان هناك من يلقي اتهامات غير مسؤولة باتجاه مؤسسات المساءلة والقضاء، في حين أن هذه المؤسسات تُمارس وظائفها ضمن القانون، وتخضع للرقابة القانونية، وتُفسح المجال للطعن والتظلم.
ان اعتماد الهجوم على المؤسسات بدلاً من الوسائل القانونية المتاحة من الطعن والتمييز، يفتح الباب للفوضى ويقوّض هيبة الدولة. فالعدالة لا تُدار من خلال المنابر والشعارات والاجتهادات الشخصية او الحزبية او الاعلامية، بل عبر القانون والنظام القضائي.
الدفاع عن استقلال الهيأة التمييزية ليس المقصود منه تحصينها من النقد، بل رفض تسييس أحكامها، كما ان تطوير القراءات والمراجعات القضائية هو جزء من تطوير النظام القانوني، وليس إشارة الى خلل فيه.
سادساً: الأثر الإيجابي التراكمي على العملية الانتخابية: إن تدقيق المرشحين قبل خوضهم الانتخابات هو أول خط دفاع عن شرعية مجلس النواب المقبل الذي ستنبثق من حكومة وموازنة عامة وتشريعات ورقابة، ويجب أن يكون قائمًا على أسس قانونية سليمة.
كما أن تمكين المؤسسات الدستورية والقانونية من أداء واجبها، هو اختبار حقيقي لجدية الدولة في تنظيم انتخابات نزيهة لا يُستخدم فيها الماضي لإعادة إنتاج الفوضى.
وإن دعم قرارات المساءلة والعدالة والهيئة التمييزية يرسل رسالة اطمئنان إلى الناخب مفادها أن الدولة لا تتسامح مع الماضي القمعي، ولا تظلم من لم يتورط بهذا القمع. وهذا التوازن هو روح العدالة الحقة، وجوهر الدولة الدستورية، واستحقاق للذاكرة العراقية التي لا تُمحى بشعار ولا تُستعاد بثأر.
