✦ بقلم: المحامي نصير جبرين
بفعل الجهل والانفصال عن واقع الوطن، تجذّر مفهوم الطابور الخامس في العراق، حتى غدا عنوانًا لكل ما يُنهك الأمة ويفتت روحها. وما كان في السابق مجرد تخوّفٍ من “الاختراق” السياسي، تطوّر بعد الاحتلال إلى عمالة صريحة وتخابر معلن مع قوى خارجية، تنفّذه جهات وأحزاب محليّة دون أدنى خجل، بل بـ”طيب خاطر”.
الطابور الخامس… من التاريخ إلى الجغرافيا
مصطلح “الطابور الخامس” لم يُولد حديثًا، بل هو توصيف متأخر لحالة متجذّرة في المجتمعات منذ أزمان، وتحديدًا في خضم الحروب الكبرى. يشير المصطلح إلى أفرادٍ أو جماعاتٍ يعملون لصالح عدو خارجي داخل حدود بلادهم، عبر التضليل والتجسس والتخريب. وفي العراق، تجلّى هذا السلوك بأبشع صوره، بدءًا من الاحتلال العثماني عام 1534 حين اصطفّ البعض خلف الصفويين بدعوى “المذهب”، غافلين عن أن الدين والمذهب لهما رب يحميهما، بينما العراق ليس له إلا أبناؤه.
خلال أربعة قرون من الحكم العثماني، رسّخ الاحتلال التركي التخلف والصراع الطائفي، واستخدم الانتماءات المذهبية لإشعال الفتن، تاركًا العراق مسرحًا لحروب الوكالة بين إسطنبول وطهران. وحين جاء الاحتلال البريطاني عام 1917، أطل الطابور الخامس من جديد، وهذه المرّة تحت ذريعة “الجهاد”، محرّكًا الجماهير لحرب الشعيبة، بينما لم تكن نوايا المحتل تخفى على عاقل، رغم ادعاء الجنرال مود في “بيان بغداد” بأنهم “محررون لا غزاة”.
ثورة العشرين… ومحاولة التفريغ
رغم استبداد المحتل، نجحت إرادة العراقيين في إشعال فتيل ثورة 1920، التي أرغمت الإنكليز على تغيير أسلوبهم من الحكم المباشر إلى غير المباشر. لكن الطابور الخامس لم يختفِ، بل تحوّل إلى أداة للتشويه، مدعيًا أن قادة الثورة كانوا أميين، متناسين أسماء مثل محمد مهدي البصير، ومستخفّين بأبطال كـ شعلان أبو الجون، فقط لأنهم لم يولدوا في باريس أو يتتلمذوا على أيدي فولتير وروسو.
وبعد الثورة، لجأ الإنكليز إلى الحيلة بدلاً من الدبابة، فجلبوا “ملكًا” من الحجاز ونصّبوه على العراقيين بإشراف “مسز بيل” و”تشرشل”، لينفّذ عبر النظام الملكي ما عجز عنه الاستعمار المباشر: الإعدامات، المشانق، وقمع الحريات.
تموز والانقلابات الطائفية
ومع تصاعد الغضب الشعبي ضد الاحتلال الجديد – السياسي لا العسكري – خرج العراقيون بثورتهم الكبرى عام 1958، ليُسقطوا النظام الملكي، ويعلنوا جمهوريتهم المستقلة. لكن الطوابير لم ترضخ:
• طابور الإقطاع والإنكليز بكى العائلة الهاشمية.
• طابور القوميين رفع شعار “الوحدة العربية” دفاعًا عن مصالح القاهرة، لا بغداد.
• وطابور “الجهلة” لبس عباءة الدين ليحارب الدولة من الداخل.
النتيجة؟ اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم ووأد التجربة الوطنية الوليدة، رغم أن “ذنبه الوحيد” كان تمسكه بسيادة العراق وثرواته.
البعث… من العنتريات إلى الحفرة
حلَّ بعد ذلك عهد البعث المظلم، فكان الطابور الرابع: صدام حسين ودولته الأمنية، التي حوّلت العراق إلى سجن كبير، وحصدت من الدماء ما لم تحصده الحروب الكبرى. عنتريات صدام وتجاهله للواقع الدولي أدت إلى كارثة الغزو الأميركي، وفتحت الأبواب أمام نظام محاصصةٍ طائفي، هو الوجه الأشد وقاحة من الطابور الخامس.
ومع مشاهد مضحكة لسلاح صدامي بدائي في مواجهة صواريخ التوماهوك، انتهى عهد “الزعيم الضرورة” في حفرة، لكن إرثه بقي في النفوس: تركة من الحقد والانقسام والفقر السياسي.
العدمية: الوجه الآخر للخراب
في موازاة الطوابير المتعاقبة، برز تيار جديد لا يقل خطرًا: العدمية. هذا التيار، الذي يُنكر القيم والمبادئ والمؤسسات، لا يحمل مشروعًا سوى الهدم. بدأ في أوروبا القرن الثامن عشر، لكنه وجد بيئة خصبة في العراق اليوم.
العدمي العراقي اليوم يرد على كل محاولة إصلاحية بشعار “كله فاسد”، ويبرر الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي، لتبقى الكارثة مستمرة بلا نهاية.
النتيجة: شلل في الوعي، وسرطان في الثقافة
يجتمع الطابور الخامس والعدمية في هدف واحد: إجهاض كل نهضة. كلاهما يرفض البناء، ويشكك في كل وطني، ويتحرك تحت ذرائع مختلفة: الدين، المذهب، القومية، أو حتى محاربة المحاصصة.
لكن الحقيقة أن هؤلاء لا يحاربون الفساد، بل يحتمون به، ويحمون بعضهم في دوامة لا تنتهي.
اليوم، وفي مواجهة هذا الخراب المتعدد الوجوه، لا بد من وعيٍ جمعي يعيد للعراقي كرامته، ويُميّز بين الوطني والتابع، وبين المصلح والمخرّب. فإما أن ننتصر لعراق حرّ، أو نُترك فريسةً لطوابير الداخل والخارج إلى الأبد
