محمد الكلابي
حين يُحكى عن إيران، غالباً ما تبدأ الرواية من النهاية: سلطة دينية مطلقة، عمامة تحكم، دولة لا صوت فيها يعلو فوق الفقه. لكن هذه الرواية المعلبة لا تشرح شيئاً، بل تُغلق باب الفهم قبل أن يُفتح. ما يُقدَّم عنها في أغلب الخطابات العربية أقرب إلى صورة ذهنية مختزلة، تُلخصها في هيمنة العمامة وشمولية الحكم الديني، لكنها لا تشرح كيف تعمل هذه الدولة، ولا لماذا لا تنهار.
إيران، في واقعها، كيان سياسي معقّد تحكمه مؤسسات متوازية لا تخضع لسلطة واحدة. هناك المرشد الأعلى، نعم، لكنه ليس الحاكم المنفرد. الرئاسة تملك نفوذاً، ومجلس الشورى يصنع القوانين، ومجلس صيانة الدستور يراقبها، والحرس الثوري يملك قوة مستقلة، والتيارات الإصلاحية تناور من الداخل. بيت المرجعية في قم لا يتحدث بصوت واحد، ويتقاطع مع مرجعية النجف في الجوار الشيعي. هذا ليس نظاماً دينياً خالصاً، بل بناء يتكون من قوى متعارضة تتفاوض باستمرار.
ولاية الفقيه ليست قانوناً منزلاً بقدر ما هي اجتهاد سياسي تغيّر مع الزمن، وأُعيد تفسيره بما يخدم ضرورات السلطة. الفقه لا يحكم الواقع بل يتكيف معه، يُستدعى حيث يفيد، ويُؤجّل حين يعطل. السلطة هنا تتعامل مع الدين كأداة ضمن أدوات كثيرة: المصلحة، الاقتصاد، الرمز، والخطاب المقاوم. التوتر في النظام ليس خللًا، بل جزء من بنيته.
المجتمع الإيراني يعيش هذا التداخل. في المدن الكبرى، تُرى طبقات متعلمة، شابة، تقرأ وتكتب وتناقش علنا. الحجاب موجود ومرفوض. النقاشات الدينية تجري داخل الجامعات. الكتب تُباع وفيها نقد مباشر لأسس الحكم. المثقف هنا لا يُعارض من الخارج بل يُفكك من الداخل. لا يطالب بإسقاط الدين بل بإعادة فهمه، ووضعه في مكانه الرمزي لا التشريعي.
السلطة تعرف ذلك ولا تخمده بالكامل. القمع موجود، لكن مساحة الرمزية تبقى مفتوحة. لذلك ظهرت أسماء مثل أصغر فرهادي، الذي قدم عبر أفلامه مشهداً واقعياً للمجتمع الإيراني، وصراع الأخلاق داخل القيود، ونال عن ذلك جائزة الأوسكار. أو عباس كيارستمي، الذي قاد الموجة الشعرية في السينما الإيرانية، ولامس القضايا الكبرى بلغة خفية تخترق الرقابة وتُبقي المعنى مفتوحاً. هذه الأسماء لم تظهر في نظام مغلق، بل في بيئة تتصارع فيها السلطة مع الوعي، لا تلغيه بل تُحاصره وتفاوضه.
حتى خارج الثقافة، الدولة لم تتوقف عن الإنتاج. ورغم الحصار والعقوبات، حافظت إيران على منظومة صناعية مستقرة: مصانع، طاقة، نقل، مراكز أبحاث، برامج نووية، وبنية تحتية تُدار بكفاءات حقيقية. لم يكن هذا ليحدث بشعارات، بل بعقل تقني يعمل تحت الغطاء السياسي. الدولة تملك جهازاً إدارياً يعرف كيف يعمل، لا يُدار بالشعارات بل بالمهارة.
الدين في إيران ليس قوة قائمة بذاتها، بل عنصر ضمن منظومة سلطة أكبر. يُستخدم كما تُستخدم القوة الناعمة والخطاب القومي والمظلومية التاريخية. هو جزء من الحضور السياسي، لا مركزه الوحيد. والحياة اليومية لا تُدار على أساس النص بل على موازين القوة والمصالح.
من يظن أن إيران تُفهم من خلال الفقه فقط، يُخطئ فهمها. هي لا تُدار بخطبة، بل بتفاوض مستمر بين قوى تتنازع على القرار. السلطة فيها لا تُملى من الأعلى، بل تُعاد هندستها من لحظة لأخرى. ليست دولة طاعة، بل دولة شدّ دائم بين السيطرة والانفلات، بين الرمز والفعل، بين الهيمنة والمقاومة الرمزية.
ولذلك، فإن أي قراءة لإيران تتجاهل هذا التوازن الداخلي تُنتج وهماً. ليست دولة دينية بالمطلق، ولا حداثية بالمفهوم الغربي، بل صيغة خاصة نشأت من سياقها، تستمد بقاءها من تناقضها. لا تحكم بقوة واحدة، بل بقوى تحكم بعضها، وتحد من اندفاع بعضها.
إيران لا تُرى من بعيد، ولا تُختصر في شعار. إنها دولة لا تُحكم فقط، بل تُختبر كل يوم داخل نفسها. ومن لا يرى هذا، فلن يرى منها شيئاً.
