“أجرة الليلة” د.عادل جعفر استشاري الطب النفسي

قصة قصيرة

عاد في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، مرهقًا بعد سفرٍ طويل. تسلّل إلى البيت بصمتٍ خشية أن يوقظ زوجته. ساد سكونٌ ثقيلٌ أرجاء المنزل، غير أنّ شعاعًا خافتًا من الضوء كان يتسرّب من باب غرفة النوم الموارب. توقّف لبرهةٍ إذ تناهى إلى مسامعه صوتُ أنينٍ مكتوم. دفع الباب بحذر، وما رآه في الداخل جمّد الدم فيعروقه.

على الفراش، رآها …. ورآهكانا عاريين ….يتقلبان على الفراش كجسدين يجهلان العالم، غارقان فينشوةٍ محرّمة، وأنفاسهما المتلاحقة تختلط بصوت تأوّهاتٍ خافتة. حدّق للحظاتٍ مشدوهًا؛ لم ينتبهالوجوده، فظلّا يتقلّبان فوق السرير في غمرةِ الخيانة، غافلَين عن الظلّ الواقف عند الباب….. وفجأةًالتقت عينا الزوجة بالظلِّ الواقف عند الباب. شهقت بذعرٍ وتجمّد جسدها في مكانه. ارتعش العشيقتحتها، ودفعها عنه في هلعٍ وهو يحدّق بالرجل الواقف بصمت. في ثانيةٍ انقلبت نشوتهما إلى ذعرٍ خانق؛هرع الاثنان إلى سترِ عريهما بملاءةِ السرير. اتّسعت أعينهما بتوقّعٍ مرعب، يترقّبان انفجارًا أو صرخةَغضبٍ مدمّرةًلكن الصمت وحده كان يطبق على الغرفة.

وقف الزوج عند الباب، وكانت ملامحه جامدةً كتمثالٍ حجري. لم ينبس ببنت شفة، ولم يتحرّك نحوهماقيد أنملة. وعيناه الباردتان راحتا تتجوّلان بين وجهيهما المذعورين. مرّت ثوانٍ ثقيلةٌ كشبحٍ يخيّم عليهم،قبل أن يمزّق الصمتَ صوتُ الزوج الهادئ كالصقيع:

قبل أن تغادرادفع أجرة هذه الليلةمائتان وخمسون دينارًا عراقيًا.”

حدّق العشيق غير مصدّق، وتحجّرت الزوجة في مكانها وقد كسا وجهَها الذلّ. للحظةٍ لم يتحرّك أحد.

اهتز جسد العشيق.

بحث عن البنطال الملقى عند طرف السرير.

أمسكه بيدين عاريتين، مفضوحتيْن.

لبسه مستعجلاً، كأنّ القماش سيعيد إليه كرامته….. أدخل يده في جيبه الأمامي، ثم الخلفي، قلبالمحفظة…. عملة فوق عملة…. فئات من الألف، من الخمسة، من العشرة…. لكنه يريد واحدة فقط….. ورقة بائسة…. ممزقة، مطوية، منسيّة. 250 دينارأخيراً وجدها…. رفعها بيده نحو الزوج…..لكن الزوجهزّ رأسه وقال ببرود:

لا. ضعها بيدها. هاي أجرتها. ليست لي.”

مدّ الرجل يده المرتعشة نحو المرأة…. هي لم تبكِ. لم تصرخ ، بل تجمّدت لوهلةٍ، ثم مدّت يدهابارتجافٍ تحت نظرات زوجها القاسية. أسقط العشيق الورقة النقدية في كفّها..  تسلّمت العملة كأنهاتستلم شهادة سقوطها المشدودة، ثم انسحب العشيق من الغرفة بخطًى مرتبكةٍ وهو يتمتم باعتذارٍخافت.

عمّ الصمت من جديد، ثقيلًا كالرصاص. التقط الزوج حقيبته وسار بهدوءٍ عبر الغرفة، متجاوزًا زوجتهالمتسمّرة في مكانها. وضع الحقيبة جانبًا وخلع معطفه، ثم بكل بساطةٍ استلقى على السرير الآخر. التفتنحوها وقال بلا مبالاة: “أنا متعبٌ من السفرلا توقظيني؛ دعيني أستيقظ على راحتي.”

وقفت في مكانها لا تقوى على الحركة…. تشبّثت بملاءةِ السرير لتستر بها جسدها المرتجف، بينما راحتالأوراق النقدية التي ألقاها عشيقها ترتعش في يدها كجمرةٍ تحرق كفّها. حدّقت نحو زوجها الممدّد علىالسرير الآخر بعدم تصديق؛ أيُّ برودةٍ تلك في ردّ فعله؟ تمنت لو أنّه صرخ بها أو حتى ضربها، فذلك أهونألف مرّةٍ من هذا الصمت المُطبق. لقد كان صمته أشدّ فتكًا من أيِّ غضب.

همّت أن تتكلّمأن تعتذر، أن تصرخ، أيّ شيءلكن شفتيها ارتجفتا بلا صوت….. شعرت أنّ الكلماتتختنق في حلقها، وأنّها لم يعد لها حتّى حقّ الاحتجاج. في تلك الظلمةِ الصامتة، أدركت أن عقابهاالحقيقي قد بدأ للتوّ. ومنذ تلك اللحظة، أمست أسيرة ذنبِها؛ ذلك الذنب الذي سيقودها بصمتٍ علىطريقٍ لا نهاية له من الندم.

مرت الأيام بعدها بطيئةً ثقيلةً كأن الزمن تحجّر بين جدران المنزل…. لم يذكر شاكر شيئًا مما حدث…. لم يعاتبها، لم يهجرها، لم يسألها أين كان عقلها ، قلبها ، روحها حين  سمحت أن يطأ بيته رجلاً آخرلكنه أيضًا لم يعاملها كزوجة.

كان ينظر إليها كما ينظر إلى قطعة أثاث فقدت قيمتها، موجودة فقط لأنها موجودة، لا أكثر.

لم تعد سمر زوجته، ولا حتى خادمته.

صارت شبحًا يسير خلفه، تطهو له الطعام، تغسل ثيابه، تنفض الغبار عن كرسيه، تبتسم له ابتسامة ذليلةكلما عبر أمامهاابتسامة ترتجف تحتها كل خلايا روحها.

وفي كل صباح، حين تنهض قبله لتعد له الفطور، تلمس يدها، دون وعي، مكان النقود التي وضعهاعشيقها ذات ليلة.

كأن ذلك المكان صار ندبةً لا تشفى، موشومةً على جلدها، تقول لها كل صباح:

أنتِ لا تساوين أكثر من 250 دينار عراقي.”

لم يضربها شاكر يومًا.

لم يحتج.

لم يهددها بالطلاق، ولم يذكر الخيانة.

لكنه كان يقيس كل كلمةٍ تقولها، وكل حركةٍ تقوم بها، وكأنها مشروطة بثمنها المهين.

حين تغلط في إعداد الطعام، يرمقها بنظرة واحدة، باردة كالسكين، تجعلها ترتعش خوفًا دون أن ينبسبحرف.

حين تتأخر في فتح الباب له، يبتسم ابتسامة مقتضبة لا تخلو من احتقار صامت.

وحين تهمّ بالحديث عن أي شيء، كان يسكتها بإيماءة من يده، وكأن كلامها لا يساوي عناء الاستماع.

لم تكن تحتاج إلى صراخ لتدرك أنها انتهت.

لقد جعلها أسيرةً لخطأها دون أن يكسر ضلعًا أو يرفع صوتًا.

كانت تمشي بجانبه كالظلّ، تعرف أنها فقدت حقها في الاحترام، أنها تعيش كل يوم بثمن زهيد مدفوعسلفًا، قبضته يوم سقطت في الفراش مع رجلٍ آخر، وسُوّيت قيمتها بسعر غرفة مهترئة.

كان شاكر قد فهم شيئًا لا يفهمه الكثيرون:

أن العقاب الحقيقي لا يكون بالعنف، بل بترك الذنب يعيش مع الجاني حتى يبتلعه حيًّا.

لم يحرمها من وجودهبل حرمها من رحمته.

صار هو حارس سجنها الأبدي، لا بالسوط، بل بالنظرة.

كل يوم كانت تسير وراءه، في البيت وفي السوق، وبين الناس، تحمل على ظهرها وزن خيانتها، تغسلقدميه بنظرات الرجاء الصامتة، دون أن تجد مغفرة.

وحين تنام ليلاً بجانبه، كانت تسمع أنفاسه المتزنة، بينما هي تختنق تحت غطاء الذكرى، تتقلب كمنيحاول الهروب من قبره.

وكان هوينام بسلام.

لأنه عرف أن الثأر لا يكون بسفك الدمبل بسفك الكرامة.


مشاركة المقال :