د. أحمد مشتت
بدأ الفوج الأول بالصعود،
وبدأ ضجيج المدفعية الإيرانية القادمة من كل الجبال المحيطة يهيمن على مشهد الرعب.
كان أول الضحايا الملازم عادل، أحد ضباط الفوج الأول.
أصابته شظية في جبهته، لم تقتله فورًا،
سقط على الأرض، وبدأ يصدر صوتًا أشبه بالشخير.
كانت الأرض من حوله تهتز تحت دك القذائف،
وكان صوتها وحده كفيلًا بمصادرة الحياة في تلك اللحظة الهشة.
رفض المقدم يوسف، آمر الفوج، إخلاء عادل إلى موقع جمع الخسائر؛
كان يريد للفوج أن يستمر في التقدم حتى القمة دون توقف.
أراد صلاح، الملازم الأول وخريج كلية التربية الرياضية، أن يتأكد من أن عادل ما زال حيًّا.
قال بصوت متوسل يتقطع في فضاء القذائف:
(لازم نوديه للمفرزة الطبية…)
كان يوسف وهو يرتجف بين خوذته وانبعاجات جسده وأوامره العسكرية، كتلة من الهلع:
(صلاح، روح للنقيب جليل وحاولوا تلتفون من الجهة الثانية على العدو…)
ثم صاح به مجددًا:
(اترك عادل وروح للنقيب جليل هناك… تره أسجلك خائن!)
كان العقيد نهاد يتنصّت،
وكان يشتم يوسف ويهدده قائلاً:
(يوسف، إذا ما تحتل التلة اليوم، تنعدم!)
توسّل صلاح بأحد الجنود أن ينقل عادل إلى موقع جمع الخسائر، لكنه رفض:
(سيدي، المدفعية الإيرانية نبشت الطريق كله، وإذا المقدم يوسف يشوفني أنزل، يطير راسي!)
كان الجندي مغطى بالدخان، لا يعرف إن كان أحد يسمعه أم لا…
عندما سقط عادل، بعد أن أصابته الشظية في جبهته، شم رائحة العشب الندي،
وكأن ارتطام جسده بالأرض أيقظها.
وفي سباقه مع الوقت، أراد أن يتذكر نهارًا ربيعيًّا التقى فيه حبيبته أمل بعد انتهاء الدوام الجامعي،
وتمشّيا معًا في الوزيرية قرب أكاديمية الفنون الجميلة، حيث كانت تدرس مادة الرسم.
كانت رائحة الرازقي تنبعث من كل مسام في جسد المدينة المضاءة بشمس آذار الدافئة.
كانت أمل تشبه الربيع: متوهجة، وجسدها المضيء أضاف لسحر الشارع المظلّل بالأشجار.
أحس عادل أن لها أجنحة من فرح لا يتعب.
كانت تحدثه عن لوحتها الأخيرة، وكان عادل يلمس التفاصيل بعينيه.
قالت له: (مشتاقة…)
وفتحت ممرًّا صغيرًا للسعادة.
لمس يدها وهي تنثر في الفضاء إحساسًا نادرًا بالأمان،
إحساسًا افتقده منذ بدأ البلد فصل الدم في بداية عام 1980.
لم يسمح له الوقت بأكثر من هذا.
كان الوقت أقسى من الشظية، وأكثر إلحاحًا على عادل أن يستسلم لنهاية مألوفة.
كان بموازاة رأس عادل الساقط على الأرض، من الجهة الأخرى،
بسطال المقدم يوسف يحجب عنه رؤية الأشجار المحتفلة بالربيع المتأخر، والهواء الشحيح.
كان عادل يغيب متحرشًا بالحياة لآخر مرة،
يتوسل لبسطال المقدم أن يتزحزح قليلاً،
ليودّع أشجار الوزيرية والرازقي وأمل،
إذ غزت ضحكتها المتدفقة مشهد الموت،
ومسحت عن جبهة عادل ألم الشظية.
يتبع…
