كانت الخطة التي وضعتها قيادة الفرقة تقضي بأن يقوم لواؤنا باسترجاع احد الرواقم العراقية احتلهاالإيرانيون.
بعد أسبوعين، سنعرف نحن المهمَّشين (أبناء الخايبة)، أن هذا الراقم قد سقط بأيدي العدو قبل عدةاشهر، وأن قيادة الفرقة لم تجرؤ على إبلاغ القيادة العامة بخسارتها، لأن ذلك يعني سلسلة من الإعداماتللقادة العسكريين.
لم يكن هذا الراقم الجبلي ذات أهمية استراتيجية كبرى،
لكن موافقة الإيرانيين على إنهاء الحرب، واقتراب بدء المفاوضات على الأرض، كان سيكشف – ضمن ماسيُكشَف – سرّ خسارة الراقم وعدم الإبلاغ عنها، وتبعات ذلك ستكون خطيرة.
لذلك، قررت قيادة الفرقة الاستعانة بلوائنا “الضيف” لاستعادته، دون إثارة أي ضجيج.
كان متوقعًا أن يتم كل شيء خلال يوم أو يومين فقط…
(معركة صغيرة) – كما وصفها العقيد الركن “نهاد”، آمر لواء ١١٤، لقادة الأفواج وأمراء السرايا، بصوتهالذي اعتادوا على الاستسلام لذبذباته المخيفة.
– (مقدّم يوسف)
– نعم، سيدي.
أجاب المقدم، آمر الفوج الأول، مصطنعًا وجهًا شجاعًا وعزيمة لا وجود لها في جسده الكبير، الذي بدتعليه علامات الترهل منذ زمن بعيد.
– فوجك يقوم بالصولة عند الفجر.
وهذا يعني: الهجوم المباغت… ضوضاء الموت الأول…
استغاثة الأرض حين توقظها أسراب الضحايا…
– (المعركة يجب أن تُحسم بسرعة)
على الورق، كانت المعركة محسومة.
والعقيد نهاد، الذي لم يدرك بعد خفايا التلة، هنّأ نفسه بنصر عسكري جديد، يضيف إلى صدره نوطًا آخرمن تلك الأنواط التي لا تعني شيئًا إلا في حفلات التصفيق العسكري.
تأهب الجميع لفصل الموت المفاجئ على هامش نهاية الحرب.
المفرزة الطبية هيّأت موقع جمع الخسائر (أي محطة الإسعاف، بمصطلحات الجيش الرصينة) عندالطريق الترابي الذي يبدأ سلسلة الجبال المحيطة بالتلة الموعودة.
بدأ خليل يتفقد تجهيزات المفرزة: عدة الإسعافات، قناني الماء المغذي، الضمادات…
أما محمد محسن، فقد تضاءل جسده كثيرًا خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية من الهَمّ،
الهمّ الذي رافق حياته البائسة كنائب ضابط لا قيمة له،
دائمًا ما يذكّره بذلك النقيب عيسى، مسؤول الحزب، حين يمر به كأنه كائن من هواء، أو كأنه يدوس علىجسده الضئيل غير آبه،
بهذا العسكري الجنوبي صاحب الصوت الشجي…
– (الحزب منتصر!)
يقولها وهو يسحب نفسًا من سيجارته، متأبطًا دفتره الأسود، الذي يستخدمه في كتابة تقارير الوشايةوالتخويف.
الآن، وسط انشغال جنود المفرزة الطبية بالاستعداد لتخفيف وطأة الحرب وشظاياها،
قفز النقيب عيسى، ليبدأ خطبته عن:
(أهمية اللحظة الراهنة في حياة الأمة!)
– (خرا بالأمة…)
همس خليل لنفسه المتأزمة، ليُنفّس شيئًا من إحساس الجزع أمام ممثل الاستبداد، وسِجِلّه الأسود،الذي يشبه كاتم الصوت.
– (إخوتي، أنتم رمز البطولة…)
قالها النقيب عيسى، محدّقًا في حذائه الأسود، متسائلًا: هل لمّعه المراسل الغبي جيدًا أم لا؟
– (وأنتم…)
ثم أعاد الشريط نفسه، ذلك الخطاب الممل الذي يشبه خطاب الرئيس ليلة أمس، وكل ليلة، وكلصباح…
وطبعًا، لم ينسَ أن يقول إن “القائد الضرورة” يبعث لهم سلامًا وأمنياتٍ بحياة مشرفة!
لكن أحدًا لم يصغِ إليه…
الأجساد المحمومة التي على وشك الرحيل، كانت تنظر إليه بعيون ترنو إلى السماء، بوجعٍ وعتاب…
كان شبحًا صاخبًا لا يعنيهم في لحظة الاشتباك هذه.
بالطبع، النقيب عيسى لم يضع قدمًا واحدة باتجاه “تلة الخطر”.
بعد خطبته غير المجدية في تمجيد الخراب،
توجّه إلى السليمانية “لبحث الموقف عن بُعد”، وتأمين إسناد “الرفاق” أصحاب الكروش الثورية،لمسيرة المناضلين نحو الموت.
يتبع
