فاروق الرماحي
في الذاكرة اللبنانية، لا يزال صوت الرصاص أعلى من صوت السلم.
خمسة عشر عامًا من الحرب الأهلية (1975-1990) خلّفت ما يزيد على 150 ألف قتيل، وأكثر من 17 ألفمفقود، وملايين الجراح المفتوحة التي لم تُخاط بعد.
بدأت الحرب بحادثةٍ بسيطة في ظاهرها .. إطلاق نار على حافلةٍ تقلّ فلسطينيين في منطقة عين الرمانة،لكن الحقيقة أن البلاد كانت تنتظر شرارة، فقط شرارة، لتنقسم إلى خطوط تماس طائفية ومذهبيةوسياسية.
انفجرت الحرب… وكان اللاعبون كُثر.
الميليشيات المسيحية، على رأسها الكتائب والقوات اللبنانية.
والفصائل الفلسطينية المدعومة من الحركة الوطنية اللبنانية.
دخل السوريون، واجتاحت إسرائيل، وانقسم اللبنانيون فيما بينهم، ثم انقسمت الطوائف داخل نفسها،فانشطر الجيش، وتبعثر الوطن .
الحرب لم تكن حربًا واحدة، بل سلسلة من الحروب المتداخلة..
حرب اللبنانيين والفلسطينيين،
حرب المسيحيين والمسلمين،
حرب الداخل ضد الاجتياح الإسرائيلي،
وحرب النفوذ بين دمشق وتل أبيب وواشنطن وطهران .
هل كانت حرب وكالات؟
نعم، لكنها أيضًا كانت حربًا أهلية أصيلة، تغذيها الكراهية، ويشعلها الغبن، وتُديرها الطوائف بعقليةالقلق من الآخر .
كل فصيل قاتل تحت راية الخوف ، خوف من الإلغاء، من الهيمنة، من التهميش، من الآخر الشريك فيالوطن.
وفي لحظةٍ ما، أصبح الدم هو لغة الحوار الوحيدة.
أما عن المسؤولية…
فهي ضائعة بين بندقية فلسطينية، ووصاية سورية، واحتلال إسرائيلي، وعربٍ اختاروا الصمت، ولبنانييناختاروا الاحتراب .
لكن لا يمكن لأحد أن يكتب عن الحرب الأهلية دون أن يُحمّل أمراء الحرب المحليين جزءًا منالمسؤولية، إن لم يكن الجزء الأكبر .
فمن قاتلوا في الشوارع، ورفعوا شعارات الطائفة فوق راية الوطن، هم من ساهموا في تهشيم الدولةوتدمير المجتمع .
هل دفعوا الثمن؟
كلا.
لقد تحوّل القتلة إلى زعماء.
والمجرمون إلى مشرعين .
من قاتل بالسلاح بات يُقاتل بالكلام داخل البرلمان، ومن ارتكب المجازر بات يبتسم من خلف شاشاتالتلفزة .
لم يُحاسب أحد !
لم تُفتح ملفات !
لم تُكتب حتى رواية رسمية للحرب، ولا حكاية متفق عليها عن ما جرى .
ثم جاء الطائف…
الصفقة التي أوقفَت الحرب… ولكنها لم تبنِ سلامًا .
الطائف لم يُلغ الطائفية بل رسّخها، وجعل من “المحاصصة الطائفية” قاعدة لتقاسم السلطة بدل أنتكون بوابة لإلغائها .
لقد جمّد النار، لكنه أبقى الجمر تحت الرماد .
وها نحن، بعد عقود من اتفاق الطائف، نعيش في ظل نظام هشّ، واقتصاد متهالك، وانقسامات طائفيةتتجدد مع كل أزمة .
والجيل الجديد؟
الذين لم يعيشوا الحرب، يعيشون آثارها .
ذاكرتهم ملغومة بأحاديث الآباء، ومحيطهم السياسي والاجتماعي ما زال محكوماً بمعادلات ما بعدالحرب .
بذور الكراهية لم تُقتلع، بل صارت تُروى بخطاب طائفي جديد، وبإعلام يُعيد إنتاج الانقسام بصيغ حديثة.
وماذا عن العرب؟
غابت العروبة حين احتاجها لبنان.
اكتفى البعض بالدعاء، وانشغل البعض الآخر بالتواطؤ .
سوريا دخلت لتحكم وتفرض إرادتها، لا لتصلح أو تُوفّق .
الدول الخليجية دعمت تيارات هنا وهناك، ومصر السادات ثم مبارك، كانت مشغولة بعلاقتها مع الغربأكثر من انشغالها بلبنان .
فُتح الباب لإيران لاحقًا، واستُبدلت السيادة بالتبعية .
في النهاية…
قد تكون الحرب قد انتهت عسكريًا، لكن حقيقتها مستمرة .
في العقل، في التعليم، في السياسة، في الوجوه التي لم تتغير .
فما دام الدم لم يُدان، والذاكرة لم تُنظف، والوطن لم يُجمع على حقيقة واحدة…
فإن لبنان ما زال في قلب الحرب، حتى وإن هدأت البنادق .