فلاح الكلابي
لم يعد خافياً على أحد أن المعلم ليس مجرد ناقل للمعلومات، بل هو صانع أجيال ومهندس عقول. دوره في بناء الإنسان لا يقل أهمية عن دور الطبيب في علاج الجسد أو المهندس في بناء المدن. علماء النفس والتربية يجمعون على أن تأثير المعلم يتجاوز جدران الصف، ليصل إلى تكوين الشخصية، وتنمية التفكير، وزرع القيم في نفوس الطلاب.
المعلم هو النموذج الأول الذي يراه الطفل خارج المنزل. هو الشخص الذي يتعامل معه بشكل يومي، ويؤثر على سلوكياته ومواقفه وتفكيره. هذه العلاقة القريبة والعميقة تجعله عنصراً أساسياً في بناء المجتمع. ولهذا فإن كل خطوة نحو إصلاح التعليم يجب أن تبدأ من دعم المعلم، لا تهميشه.
في دول مثل فنلندا، لا يُسمح لأي شخص أن يصبح معلماً إلا بعد اجتياز اختبارات صارمة، وحصوله على درجة الماجستير. التعليم هناك ليس وظيفة، بل مسؤولية وطنية، ومصدر فخر. يتم إعداد المعلمين بشكل جيد، ويُنظر إليهم على أنهم قادة مجتمعيون. أما في مجتمعاتنا، وخاصة في العراق، فلا تزال النظرة إلى المعلم قاصرة، ويُعامل وكأنه موظف حكومي لا أكثر، رغم أن وظيفته هي الأخطر والأعمق أثراً.
رغم كل الظروف الصعبة، تجد كثيراً من المعلمين يعملون بإخلاص. يتحملون أعباء مالية، وظروفاً تعليمية غير مناسبة، ويواصلون أداء واجبهم تجاه الطلاب والمجتمع. لكن إلى متى يستطيع المعلم أن يصبر؟ كيف يمكن أن يُطلب منه الإبداع وهو لا يجد احتراماً ولا تقديراً؟
الواقع يشير إلى خلل واضح في أولويات الدولة والمجتمع. فبينما يتم صرف مليارات على مخصصات وامتيازات لأشخاص لا يملكون تأثيراً مباشراً في حياة المواطنين، يُترك المعلم يصارع من أجل راتب يكاد لا يكفيه لأبسط الاحتياجات. هل من المعقول أن عضو جمعية وطنية يتقاضى ملياراً وأربعمئة مليون دينار في سنة، بينما لا يحصل المعلم حتى على دعم لإكمال دراسته؟
ما الذي يمنع الدولة من تخصيص جزء من هذه الميزانيات لدعم التعليم؟ ماذا لو استثمرنا في تأهيل المعلمين، وبناء مدارس حديثة، وتحديث المناهج، وتوفير أدوات تعليمية تليق بعصرنا؟ حينها فقط يمكننا الحديث عن تعليم حقيقي، لا مجرد شعارات تُطلق في المؤتمرات.
نحن نعيش في عصر السرعة، التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي. صحيح أن كثيراً من الوظائف قد تختفي في المستقبل، لكن وظيفة المعلم ستبقى. لأن التعليم لا يقوم فقط على المعلومات، بل على التفاعل الإنساني، على بناء الثقة، وتحفيز التفكير، وإثارة الفضول. كل هذا لا يمكن أن تقدمه الآلة. وحده المعلم القادر على تغيير حياة الطالب بكلمة، بتصرف، بموقف.
لكن، ما الذي نفعله لهذا المعلم؟ هل نكرّمه؟ هل ندافع عنه؟ هل نوفر له ما يحتاجه ليكون مؤثراً وفعّالاً؟ للأسف، في كثير من الأحيان، المعلم يُهان، يُضرب، يُتهم، ويُعاقب لأنه طالب بحقه أو حاول حماية كرامته.
الحل ليس معقداً. يبدأ من الاعتراف بأن التعليم هو استثمار طويل الأمد، وأن المعلم هو الأساس. إذا أردنا بلداً قوياً، فليكن لدينا معلم قوي. وإذا أردنا مجتمعاً متعلماً، فليكن لدينا تعليم محترم، ومعلم محترم.
نستطيع أن نستغني عن كثير من المناصب، ولكن لا يمكن أن نستغني عن المعلم. لأن الاستغناء عنه، يعني ببساطة، أننا تخلينا عن المستقبل.
في العراق، نملك العقول، الطاقات، والتاريخ. لكننا بحاجة إلى إرادة حقيقية، تعيد للمعلم مكانته، وتصنع نظاماً تعليمياً يحترم الإنسان ويصنع وعياً حقيقياً. فالمعلم ليس عبئاً على الدولة، بل هو أملها الأكبر.