التوراة تقصف غزة

محمد الكلابي

حين تُحلّق طائرات الكيان الصهيوني فوق غزة، لا يُسمع فقط هدير المحركات، بل صوت آخر أكثر قِدماً ودموية… صوت يخرج من سفر يشوع وسفر التثنية، لا من غرف العمليات. في هذا الكيان، لا تُلقى القنابل لأن الخطر داهم، بل لأن النصّ قال: اقتل. القصف لا يأتي استجابة لمعطيات أمنية، بل امتثالاً لأوامر توراتية تم تحنيطها في الوعي الجمعي وتحويلها إلى عقيدة وطنية. السؤال ليس لماذا يُقتَل الفلسطيني؟ بل لماذا يُسمَح له أن يعيش أصلاً في رواية دينية ترى فيه عائقاً أمام الوعد. في الذهنية الصهيونية، الأرض ليست للفلسطينيين، لأن الرب ـ كما يزعمون ـ كتب ملكيتها لبني إسرائيل. ومن لم يفهم أن الطائرة هنا هي “رسول نبوءة”، لن يدرك لماذا يقتل المدني قبل المقاتل، ولماذا يُقصف الحي السكني كما يُدك الموقع العسكري.

في سفر التثنية، إصحاح 20، العدد 16: “أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً، فلا تستبقِ منهم نسمةً”، وفي سفر يشوع، إصحاح 6، العدد 21: “حرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف”. أما في سفر صموئيل الأول، إصحاح 15، العدد 3: “فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً”. هذه ليست روايات تراثية تُروى بل تؤمن بها الحركة الصهيونية وتُدرّس في المناهج، وتُترجم عملياً في الضربات الجوية على غزة، وفي الاجتياحات البرية للضفة، وفي التهجير القسري والقتل العشوائي. الطفل الفلسطيني لا يُرى ككائن بشري، بل كامتداد للكنعاني والعماليقي واليبوسي الذين أمرت نصوصهم بإبادتهم.

المجند في جيش الاحتلال لا يضغط الزناد وحده، بل بجواره حاخام يقرأ، وآية تُرتل.

المجند في جيش الاحتلال لا يضغط الزناد وحده، بل بجواره حاخام يقرأ، وآية تُرتل. الحاخامية العسكرية ليست هيئة روحية، بل مؤسسة حرب تشرعن القتل باسم الرب. الحاخام أفيحاي رونسكي، الرئيس السابق للحاخامية العسكرية، أفتى بأن قتل المدنيين الفلسطينيين لا يناقض التوراة بل يتماشى مع أوامرها. وفي مرات متكررة، تم توزيع كتيبات دينية على الجنود قبيل الهجمات، تُذكرهم بنصوص الإبادة و”المحرّمات” التي يجب استئصالها. في هذا السياق، الطلقة لا تخرج من فوهة البندقية فقط، بل من قلب الإصحاح.

السلطة السياسية في الكيان الصهيوني لا تحكم بالقانون المدني، بل تتحرك بوحي نبوءات. بنيامين نتنياهو، في خطابه أمام الكونغرس عام 2015، قال: “هذه الأرض وعدنا الله بها كما جاء في سفر التكوين”. أما الأحزاب الدينية المتطرفة كـ”القوة اليهودية”، فهي لا تسعى لتشريع سياسات، بل لتجسيد نبوات التوراة على الأرض. وعليه، فإن كل مجزرة تُرتكب ليست حدثاً عارضاً بل صفحة من سفر قيد التنفيذ. تقارير مثل “Breaking the Silence” توثق شهادات جنود صهاينة يعترفون بأن التعليمات الميدانية لا تُعطى بلغة القانون، بل بلغة “التطهير الكامل”، بينما منظمة “B’Tselem” توثق نمطاً ثابتاً: قتل جماعي للأسر، قصف لمنازل دون تحذير، ومحو للأحياء كما تم محو المدن في يشوع.

ما يجري ليس حربًا، بل تطبيق حديث لسفر قديم. ليس اجتياحًا، بل تجسيدًا للوصية. نحن لا نُقصف فقط لأننا خصوم، بل لأننا لسنا جزءاً من الرواية. في كتبهم، نحن ظلال بلا أرواح، أجساد بلا قيمة، عقبة في طريق النبوءة.

وما لم يُكسر هذا النص…

وما لم تُحرق هذه الأسفار التي تشرّع المذابح…

فلن تتوقف النار،

ولن تُغلق نعوشنا،

ولن يُولد الفلسطيني آمناً،

لأن كل قذيفة تُطلق، هي آية تُتلى…

ونحن لا نُقصف فقط — نحن نُمحى من كتابٍ لا يعترف بنا حتى كأعداء.


مشاركة المقال :