في أربعينية داود الفرحان

كاظم المقدادي
 اليوم تمر أربعينية المرحوم داود الفرحان ، الكاتب الكبير ..الذي عرف كيف يكتب .. وماذا يكتب .. ولمن يكتب .. في الزمن الصعب ، والسياسة الصعبة و القيادة الصعبة..!
هو الذي قدم لنا اجمل سلسلة من مقالاته الساخره ، نشرها في مجلة ألف باء ، ثم طبعها في كتابه الوحيد ( بلد صاعد .. بلد نازل ) .
هو التلميذ البار الذي ظل وفياً لصاحبة الجلالة ، واهباً قلمه لورق الصحافة .. مثلما يفعل تلامذة المدراس من الذين يكتبون واجباتهم بقلم الرصاص الأسود بعزيمة وشطارة. .
اما المتلونون والانتهازيون ، فهم لا يفرقون بين لون وآخر ، مستعدون الكتابة بكل الالوان لخدمة السلطان .. وفي كل الأزمنة الباردة ، والساخنة التي تصل حد الغليان .
فهؤلاء يكتبون ويتلونون حسب الطلب ، وما عليك إلا ان تسخر منهم ، وتضع علامة العجب بلا جدل ولا عتب ..!!
الأقلام .. ايها العزيز ، مثل رغيف خبز ، تتعب بالحصول عليها ، وتكتب بما يساوي معناها .. انها توثق تاريخ صاحبها ، غنياً كان أم فقيراً ، وطنياً ام عميلاً .. والانسان موقف و تاريخ .. وسيقف يوماً مذهولاً ، حتى ولو عاش في المريخ .
منذ عقود .. وأنا ارفع بقايا أقلام متروكة على الأرصفة ، لكي لا تطالها احذية من طل وذاع ، ولأنها بقايا خبز للجياع ..!!
داود الفرحان .. تاريخ وموقف ، سخر قلمه من اجل الناس ، وظل يفكر ويتأمل ويفرح ويحزن وهو (بين الناس) بلا ثواب من غفير ، ولا منة من خفير .. وكان يقول :
السخرية هي سلاحنا الوحيد والأخير ..!
اصعب ما في الكتابة انك تكتب ، وانت القريب من السلطة ، فقد شغل الفرحان مناصب في وكالة واع العراقية ، ومديراً لجريدة الجمهورية ، وكان لثلاث مرات نائباً لنقيب الصحفيين العراقيين ، وملحقا صحفياً في عاصمة الفاطميين .
كان الفرحان يعيش هذه الحالة الصعبة والمعقدة ، كيف يخدم السلطة ولا ينتقدها ، لكنه فضل التمرد على الخنوع ، وحرية الكلمة على كل ممنوع ، اخذ من مفردة التمرد عنواناً ، وخاض اصعب حالات المواجهة في أروقة جمهورية الخوف ، سبيلاً وبياناً .
كان يعيش حالة التمرد في وجدانه وفي مقالاته بفوضوية ، وحالة من الانضباط بحدود التزاماته الإدارية ..!!
مرة خرجت من منطقة طربيل الحدودية .. وعدت منها ، فأحزنني ما وجدت من تصرفات سخية ، واجتهادات غبية ،، فكتبت مقالة ساخرة كان عنوانها (حكومة طربيل) على صفحات جريدة ( نبض الشباب) التي كانت بعهدة الزميل د هاشم حسن .
هذه المقالة سببت صداعا للمسؤول آنذاك الحزبي الكبير صباح الحوراني .. فرد برسالة شديدة اللهجة ، بلا ادب ولا كياسة فأرسلها إلى رئاسة التحرير مهدداً ومعنفاً ومنذراً ( … كيف يحق لهذا الكاتب الذي اسمه كاظم المقدادي ان يسخر من حراس الحدود ، و حراس الوطن .. وهو من الطابور الخامس ..)..!!
وبعد يومين .. رد عليه داود الفرحان في مقالة ساخرة قوية سنة 1998نشرت في جريدة الزوراء التي يرأس تحريرها د طه جزاع عنوانها : ( جنة .. طربيل ! ) وكانت ساخرة بأشد كلمات السخرية :
تجدها ايها العزيز ، امامك وبين يديك ، لترفع القبعة لهذا الكاتب الي نذر نفسه لقول الحق .. بوجه ظالم غير محق ..!!
كان منفذ طربيل الحدودي هو الوحيد في زمن الحصار ، وكان مشرعاً للفساد والتهريب ، حتى ان أحد مرافقي القائد الضرورة هرب بعض الاسلحة المرصعة و الثمينة دون ان يعترض عليه احد .. !!
لكن عندما تقف أمامهم فتاة صغيرة وضعت حول عنقها قلادة ذهبية صغيرة ، تصعد عندهم الحمية ..بأسم الوطن والوطنية ، وهؤلاء هم انفسهم من سمحوا لحسين كامل وزوجته ، ليخرجا بالذهب وبالجمل ( الرئاسي) وبما حمل ..!!
هذا موقف من عشرات المواقف التي كان داود الفرحان يقف مع زملائه وقفة زميل للمهنة العصية ، ورسالتها الابدية .
مرة جاء إلى عمان في التسعينيات بزمن ( المحتصر بالله) مشاركاً باجتماعات وتوصيات وبيانات الصحفيين العرب ، وجاء البيان الختامي ، على عكس ما يطمح اليه نقيب الصحفيين عدي ابن الر ئيس ، الذي اسرع فاتصل بالفرحان معنفاً ومزمجراً .. وعندما حلت ساعة عودة الفرحان في اليوم التالي لبغداد ، وضع الفرحان ملابس النوم في حقيبته اليدوية قائلا لي :
ربما يجروني من بناية المطار إلى جهاز المخابرات وأمض هناك ليال” هنية”..!!
لقد صدر كتابه ( بلد صاعد .. بلد نازل ) بلا حفل توقيع ، وقد تجرأت ونظمت له الحفل في رواق مكتبتي ( كليم ) مقابل الجامعة التكنولوجية ، وقد حضر جمهور بسيط ، من اصدقائه المقربين .
 لم يتوقف الفرحان يوما عن نقده الساخر .. ولا أنكسر قلمه الساحر .. ولا انقطع حسه الماكر ، إلى ان وقع في فخ الآمر الناهي ، بعد أن سخر من وزير أوقافه بمقالة ( ليلة فقدان .. الحاجة فاطمة) نعت فيها الوزير المهاب، بأقسى الأوصاف والألقاب .. يومها طلبوا من شقيقه الذي يعمل بجهاز المخابرات، ان يأتي به مقيد اليدين ، كسير العينين ، ليشهد مصيره ، و ليرى لا مبالاة الناس به .
أمضى داود الفرحان .. اياماً وأسابيع وشهور ، سجيناً حسيراً .. حتى وهن عظمه ، وساءت صحته ، فكتب رسالة طالباً عطف الرئيس القائد .. وقد استجاب ، لكنه ظل بغيداً لكل ما لذ وطاب ..!!
فخرج من سجنه ، إلى بيته في منطقة زيونة.. ذهبت اليه في اليوم التالي مهنئاً بسلامته .. فوجدته وسط جمع من ( البزازين ) الجياع .. وظننت أنه سيكون بين جمهرة من قرائه الضباع ..!!
غادر داود الفرحان بغداد إلى بلاد المعز ، وهو سعيد وذائع ، وطل بقلمه هذه المرة على جمهوره العربي الواسع .. ومضى في طريقه .. يكتب ويكتب بأسلوبه الساخر الرائع .. بعيداً عن أعين السلطان الذي قال مرة :
( هذا الفرحان .. ( يسخر منا ونحن نضحك) ..!!
مات السلطان .. ولم تمت كلمات الفرحان ..) // انتهى

مشاركة المقال :