استدعاء الطفولة والموت في سماء من خشب للشاعر زين العزيز

استدعاء الطفولة والموت في سماء من خشب للشاعر زين العزيز

محمد الكلابي

في فضاء الشعر الحديث، حيث الكلمات لا تأتي محض وسيلة بل غاية بذاتها، يُطل علينا ديوان “سماء من خشب” للشاعر زين العزيز كحالة شعرية متفردة، تتخطى الحدود التقليدية للقصيدة، لتعيد تشكيل العلاقة بين اللغة والتجربة، بين النص والحياة. إنه ديوان يثير في القارئ إحساسًا داخليًا بالانجذاب نحو البساطة الظاهرة التي تخفي عمقًا مهيبًا. النصوص في هذا الديوان ليست مجرد سرد أو تأمل، بل هي انعكاسات لوجوه عديدة من الحياة: الطفولة المتقطعة، الجوع الذي لا يشبع، الغربة الساكنة داخل النفس، والموت الذي يظل على أعتاب الحضور.

 

كنا ثلاثة إخوة،

تعلمنا أن نحب كل شيء

من دون أن نلمسه.

في قصيدة “بائع الفشار”، تبدأ الرحلة مع الشاعر من خلال استدعاء الطفولة، لكن هذه الطفولة ليست ذلك الزمن البريء الذي تملؤه الأحلام، بل هي طفولة منكسرة، طفولة تعيش في ظل الجوع والانتظار. العبارة “كنا ثلاثة إخوة” التي تتكرر في القصيدة، تفتح نافذة على مشهد عائلي يبدو مشحونًا بالتآزر، لكن تآزر الضرورة، حيث يواجه الإخوة الحياة ككتلة واحدة في وجه قسوتها. العبارة تتكرر وكأنها صوت داخلي يعيد التأكيد على هذه الوحدة المفروضة، حيث الجوع يوحد، لكنه أيضًا يثقل. الشاعر يقول: “تعلمنا أن نحب كل شيء من دون أن نلمسه”، وهي عبارة لا تعكس فقط الحرمان المادي، بل تذهب أبعد من ذلك إلى وصف حالة إنسانية يعيش فيها الشخص على أطراف الرغبة، يخاف الاقتراب منها، كما لو أن اللمس قد يُفسد حتى الخيال. ثم تأتي صورة “حبّة الذرة المفزعة”، وهي ذرة صغيرة، بسيطة، لكنها تحمل في هذا السياق ثقل الحياة كلها. الذرة هنا تصبح استعارة للندرة، للشيء الذي يملأ العين لكنه لا يملأ البطن، للفرح المؤقت الذي لا يدوم. وما بين الجوع والانتظار، يستدعي الشاعر مشهدًا سورياليًا حين يقول: “نحن ننتظر فلاّحًا يأتي من غيمة الجوع”. هنا يتحول الانتظار إلى حالة دائمة، فلا يُكتفى برؤية الجوع كحالة آنية، بل كغيمة، كشيء يظل معلقًا فوق الرؤوس.

 

لكن حين ننتقل إلى قصيدة “دمع أبيض”، نجد أن المشهد يتغير، ليس من حيث الإيقاع بل من حيث البنية الشعورية. الموت الذي يقدمه الشاعر هنا لا يأتي بصورة نهائية تقليدية، بل يأخذ شكلاً مختلفًا، يتحول إلى إعادة تشكيل للحياة نفسها. حين يقول: “سأسألك ذات موت عن شظايا جسدي، أصارت أطفالًا؟” فإن الجسد، الذي كان رمزًا للحضور والثبات، يتحول إلى شظايا، إلى فتات، لكنه فتات يخلق حياة جديدة. هنا يُعاد تعريف الموت كجزء من دورة الحياة، لا كنهاية مطلقة، بل كامتداد للوجود. ثم تأتي العبارة “ظلامك كالراغيف”، وهي صورة تمزج بين النقيضين: الظلام، وهو رمز الغياب، والرغيف، وهو رمز الاستمرارية والبقاء. الشاعر يجعل من الغياب شيئًا يوميًا، كما لو أن المعاناة أصبحت خبز الحياة. وتتعقد الصورة أكثر حين يصف “صغارًا من الدمع الأبيض”، فالدموع تتحول هنا من مجرد سائل يرتبط بالحزن، إلى كائن حي، يولد وينمو. الدموع هنا ليست مجرد تعبير عن الحزن، بل هي حالة من التحول، من الحياة التي تُعاد صياغتها مع كل دمعة. وعندما يقول الشاعر: “كل دمعة تبتلعها يصبح صوتك أكثر طفولة”، فإنه يخلق توازناً غريباً بين الطفولة والنقاء من جهة، والفقد والانكسار من جهة أخرى. الطفولة هنا ليست حالة فرح، بل حالة نقاء تأتي فقط من الألم.

 

وفي قصيدة “موال متقطع”، يأخذنا الشاعر إلى حالة شعورية مختلفة، حيث يصبح النص نفسه متقطعًا كصوت داخلي يحاول أن يكتمل لكنه يتعثر. العبارة “القلب الذي يخفي رأسه كنعامة” تفتح الباب أمام صورة مجازية عميقة، حيث القلب، الذي يُفترض أن يكون مركز الشعور والشجاعة، يتحول إلى كائن خائف، منكفئ، يحاول أن يختبئ من العالم. وهنا يظهر الانفصال بين الداخل والخارج، بين ما يعيشه الجسد وما يشعر به القلب. ثم تأتي الصورة الأكثر غرابة: “ندفة تلج دافئة”، حيث يتحدى الشاعر المألوف في خلق تناقض داخلي بين البرودة والدفء، كما لو أن الحياة نفسها مزيج من النقيضين. الإيقاع المتقطع للنص يعكس حالة من الانكسار، حيث النص لا يسير بسلاسة، لكنه يخلق توتراً يجعل القارئ يشعر باضطراب النفس التي تكتب.

 

 

قصيدة “موال متقطع”

لم يحدث ذلك

القلب الذي يخفي رأسه كنعامة

بين نهدي عاشقة،

بل تحوّل إلى هرمون الاستروجين،

ندفة تلج دافئة

حين يبكي الجسد،

وحين يغني

موالًا

متقطعًا.

 

ديوان “سماء من خشب” لا يقدم النصوص ككيانات مستقلة، بل كل قصيدة تتفاعل مع الأخرى لتخلق نسيجًا شعريًا موحدًا. الجوع الذي يظهر في “بائع الفشار” يعيد نفسه في “دمع أبيض”، لكن ليس كحالة مادية فقط، بل كحالة روحية تتداخل مع الحياة والموت. الغربة التي تظهر في “موال متقطع” ليست مجرد غربة مكانية، بل هي غربة شعورية تعبر عن الانفصال بين الذات والعالم. وحتى الطفولة، التي تبدو كحالة زمنية، تتحول إلى حالة شعورية تمتد عبر النصوص.

 

ما يجعل الديوان متفردًا هو طريقة الشاعر في استثمار الصور البسيطة لخلق معانٍ عميقة. الذرة، الدموع، القلب، كلها أشياء يومية، لكنها تتحول في سياق النصوص إلى رموز تحمل أبعادًا وجودية. ثم هناك اللغة، التي تُستخدم ليس فقط كوسيلة للتعبير، بل كأداة لخلق التوتر والشعور. التكرار، الإيقاع، والقطع المفاجئ، كلها أدوات يستخدمها الشاعر بمهارة لخلق تجربة قراءة تثير القارئ وتجبره على التوقف والتأمل.

 

الديوان لا يقدم نفسه كإجابة، بل كدعوة للبحث، للتفكير، لإعادة النظر في المعاني التي نربطها بالجوع، الموت، الغربة، والطفولة. إنه عمل شعري يتحدى القارئ ليواجه نفسه والعالم من خلال النصوص. وفي النهاية، يتركنا ديوان “سماء من خشب” مع إحساس بالغموض، لكنه غموض يحمل في طياته أملًا صغيرًا، كما لو أن السماء المصنوعة من الخشب لا تزال قادرة على الصمود.

 

(Visited 13 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *