عبقري الدراما العراقية.. صباح عطوان

في اواسط الثمانينات من القرن الماضي كنت
اجلس برفقة طاّب السينما في اكاديمية الفنون
الجميلة نستمع الى الأستاذ ثامر مهدي وهو يعلّمنا
كيف نكتب السيناريو بطريقته المتفرّدة واذا به يقف
امام الشباك متأمّا قليا، ثم نادى علينا كي نقف
بجانبه، وأشّر بسبّابته المرتجفة الى شخص يجلس
على كرسي في ركن من اركان المعمورة، شخص
رصاصي في شكله وملبسه يكتب، بل ينهمك في
الكتابة، صمت د.ثامر قليا ونحن نتأمّل اصبعه الذي
لم ينزله للحظات الى حيث يجلس الرجل الرصاصي
الذي لم نرى له وجها أو مظهرا نستطيع من خلاله
التعرف على هويته، وأنقذنا استاذنا من هذه الحيرة
حينما أشار لنا بالجلوس.. صمت قليا ثم قال: «هذا
الرجل قدّم الى لجنة فحص النصوص لدائرة الاذاعة
والتلفزيون عشرات النصوص وتم رفضها وكنت انا
عضوا في اللجنة، ولم يمل، الى ان وصلت الى
مرحلة وقفنا امامها في منتهى الاحترام والاعجاب
اذ وجدنا انها تتمكن من رسم شخصياتها بطريقة
مدهشة وبحوار طويل نوعا ما لكنه بليغ لدرجة
الشعر ».. ابهرنا كلام الاستاذ وشوّقنا ان نعرف هويّة
هذا الكاتب صاحب الارادة القوية والاصرار العجيب،..
وكدنا نعود للشباك او نخرج من الصف كي نتعرف
على الرجل الرصاصي لكن خوفنا واحترامنا لاستاذنا
وتشوّقنا للحل، او النهاية، او نهاية البداية التي غالبا
ما يفجّرها استاذنا بطريقة مشّوقة ومبتكرة جدا
جعلنا ننتظر منه الاجابة .. وصفه ثامر باوصاف
عجيبة غريبة مرّات يقول انظروا لهذا ال..، ومرّات
يقول ال..عبقري .. اضحكنا وابكانا وشوّقنا بل دمّرنا
من طول الانتظار لكنه وقبل ان يخرج من المحاضرة
بثوان قال انه الكاتب المهم صباح عطوان. كان
فيلما من سيناريو ثامر مهدي، تسجيليا ووثائقيا،
سيرة ذاتية او جزء من سيرة، قصة اصرار، عية او
حرفة او عمر او ثقافة او دين او.. لم يدخل انفه
الطويل جدا فيه كي ينقل لنا رائحته المميزة، ولم
يترك لسانه الطويل جدا دون ان يتذوقه ويصف
لنا طعمه بأجمل شكل.. وعينان ترى مالا يراه
الاخر . انه طبيب نفس وقلب وهما اجمل مايتصف
به الانسان، هو يمتلك فلسفة خاصة به حاول
انيطرحها ببلاغة الرسام والشاعر والصانع الماهر.
هو مجرم احيانا حينما يصنع لنا شخصيات مثل
نائل ومهند ومنذر وحتىنوال وسناء وو..
في مسلسل )ذئاب الليل(، هو عاشق يعشق
بكرامة وكبرياء وعنف نفسي في )فتاة في
العشرين (. هو حالم كبير في حلقات مهمة من
مسلسل )احام (، يكتب احلامه بطريقة عالم
النفس. فاّح متمسّك بقيم وتقاليد عجيبة غريبة،
بتفاصيل مذهلة، ايجابية كانت ام سلبية.
وغالبا ما يكثر من الشخصيات السلبية
معقّدة البناء كي يساهم في اعادة
تقييمها وتقديمها واعادة هيكلتها
ضمن المنظومة الايجابية المجتمعية،
او يصدر عليها حكما فيه من الرحمة
وفيه من القساوة، لكنه اب للجميع
يكافيء من يستحق ويعاقب من
يستحق بتبريرات قد يلجأ فيها الى
الحوار الطويل كي يمتعنا ويقنعنا
بأحكامه، )جرف الملح، الدواسر،
المتمردون، ذئاب الليل(. وقد يتلبّس
جلد امرأة ويدافع عنها وينصّبها ملكة
على عالم بائس فيه مشاكل المجتمع
المستلب، ومنه يستمد الحلول بصورة
الامر الناهي المتجذّر في فهمه
لسلبيات مجتمعه وتقاليده المتوارثة،
ودراسته لطبيعة بناء الشخصية
النسائية العراقية، )عالم الست
وهيبة(، وتتجوّل شخصياته احيانا بجولات
بحث استكشافية بايقاع متسارع كي تكتشف
الاكثر والاوسع مساحة علّها تجد ضالّتها )البحث
عن ندى(، أو ينصّب امرأة سيّدة للرجال فيمنحها
لقب تستحقه وتتفوّق فيه على كينونتها المتعارف
عليها كونها امرأة، لكنها عنده تستحق ان تكون
سيدة على نفسها وعلى الرجال )امطارالنار(. في
هذا المسلسل كان الحوار بطا من ابطال النص
مثلما كانت الصورة والفعل الدرامي المرسوم
بدقّة . فهو تعامل مع المكان ان كان خارجيا او
داخليا، مدنيا ام ريفيا، واستغل مفردات الحارة
الشعبية وزرع بداخلها شخصياته المحبّبة الى قلبه
والقريبة من تلك الحارة بالروح والفعل فتميزت
له اعمال ستبقى في الذاكرة خالدة مثل )اعماق
الرغبة، جنوح العاطفة، ايام ضائعة، اجنحة الثعالب،
الهاجس، عنفوان الاشياء، رجل فوق الشبهات،
غرباء الليل، باشوات اخر زمان( ومسلسات كثيرة
تجاوزت السبعين مسلسا و) 91 ( سهرة تلفزيونية
و) 15 ( فيلم تلفزيوني واكثر من ) 1000 ( عمل
اذاعي، وافام سينمائية مثل افام )المتمردون(
و)الباحثون ( و)ويوم أخر ( و)شيء من القوّة(
و)مكان في الغد( وعشرات المسرحيات ابتدأها
بمسرحية )معن بن زائدة وحسن افندي، العاطفة
والاحتقار، الجسر، المحطه، المعجزة(. وأنجز عشر
روايات مهمة مثل )المس، تنومة(وغيرها.
كتب الشعر الشعبي، وكتب النقد السينمائي، يعتزّ
كثيرا في السهرة التلفزيونية التي كتبها عام 1985
)أجنحةالرجاء( اضافة الى مسلسل )سيدة الرجال(
الذي يكنّ الى مخرجها عزّام صالح الاحترام الكبير
. يهمه جدا ان يجلس معه مخرج العمل الذي كتبه
قبل المباشرة بالتصوير لايعترف ب) 40 ( مسلسا
من مسلساته السبعين او اكثر قليا. له نصوص
كثيرة تنتظر الانجاز منها فيلم )احام الغربة( الذي
ينوي اخراجه بنفسه.