جليل وادي
يوم كنا طلابا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أدهشنا ذلك الشاب الوسيم الذي جاء من مدينة النور والعطور باريس ، بلغته الفارهة وأناقته الباذخة ، وحكاياته الشيقة ، تجول بنا في أزقة الاعلام شرقا وغربا ، وعوالم السينما الفرنسية ، وكان ومهرجانها الآسر ، وفضاء الحرية الاجتماعي قبل السياسي والاعلامي ، في وقت لم نعرف فيه من الحرية سوى اسمها ، ومن الحياة سوى أزيز الرصاص واللون الخاكي وكراج النهضة .
في صباح ذلك اليوم أطل علينا الدكتور كاظم المقدادي في فعالية علمية بقسم الاعلام في كلية الآداب بجامعة بغداد ، مازال طعمها اللذيذ تحت اللسان ليجعل من الحرية حلما ، ومن الاعلام رسالة ، ومن القلم مسؤولية ، ومن المعلم عقيدة ، كنا نتلمس بوضوح كاف نظرات الفخر التي كانت تلمع في عيني استاذنا الدكتور المرحوم سنان سعيد الذي قدم ضيفنا الباريسي وكأنها تقول لنا هذا طالبنا فكونوا مثله ، الاصغاء كان على أشده حتى يمكنك سماع صوت الابرة ان سقطت ، لا نريد لتلك الجلسة أن تنتهي ، ولا نريد لأسئلتنا أن تأخذ من وقت الكلام الذي نسمعه ، فتركنا للدكتور سنان سعيد ادارة الحوار باحترافيته المعروفة ، وبلغته الغزيرة ، وجمالية تلويناته الاسلوبية المماثلة لتخطيطاته التشكيلية ، سعدنا كثيرا بذلك اللقاء ليس لمضمونه الوفير واسلوبه الجذاب فحسب ، بل للنوافذ التي فتحها المقدادي أمام أبصارنا لتطل منها على عوالم غير العالم الذي أعتدناه .
تخيلوا معي وبعد أكثر من أربعين عاما ، وبعد أن ظننا ان المعلم صار مقدسا ، والاعلامي محصنا ، والفضاء مفتوحا ، واذا بالدكتور كاظم المقدادي مكتوف الأيدي ، يجرجره نفر من الذين لم يكتسبوا من العلم حرفا ، ولم يفقهوا للدولة معنى ، وللقانون هيبة ، وهذا ما حدث بالضبط عندما قامت قوة أمنية بتحريك من أحد المتنفذين بالاعتداء واعتقال المقدادي .
لم يكن في الوقت متسع لأسأل المقدادي كيف أطلق سراحه ، فخبر الاعتداء لم أسمع به الا صباح يوم الجمعة موعد كتابة هذه المقال ، اذ كنت طريح فراش العافية خلال الأيام الماضية ، ولكني صدمت به أيما صدمة ، وتمنيت مع نفسي أن يكون اطلاق سراحه لكونه اسما لامعا في صحافتنا العراقية ، واستاذا بارزا في كلياتنا الاعلامية ، وكاتبا مرموقا ، ومتحدثا مفوها ، فمن شأن ذلك ابقاء الأمل بأن دنيا العراق قد تتغير نحو الأفضل ، اما اذا كان اطلاق السراح جاء بعلاقات المقدادي الشخصية فذلك محزن للغاية ، اما اذا كان المتنفذ يريد اعطاءنا نحن الصحفيون درسا بالنفوذ ، فنعد هذا علينا قراءة سورة الفاتحة على بلادنا ، فمن غير المعقول أن يحدث مثل هذا بعد مضي أكثر من عقدين على عراق يصفونه بالجديد .
ربما يقهقه أحدهم مع نفسه ليقول : ما الغريب في ذلك يا رجل ؟، عليك أن تتوقع كل شيء في بلد للمتخلفين فيه قوة الدولة ، وللجهلة سلطة التشريع ، وللفاسدين نعمة الحصانة ، وله حق في ذلك ، فأهل السياسة الذين أوصلونا الى ما نحن فيه من خراب يتمتعون بالحصانة ، بينما استاذ جامعي تخرج على يديه آلاف الطلبة الذين يديرون غالبية مؤسساتنا الاعلامية يقتاده متنفذ ضرب القضاء عرض الحائط ، وقدسية العلم بقدميه ، وأعطى للدولة ظهره ، وكأن لا وزير للأمن فيها ، ولا قائدا لقواتها المسلحة . كيف يحدث هذا ؟ .
ليس أعضاء مجلس النواب بأهم من الاستاذ الجامعي اطلاقا ، وما يقدمونه لا يعني شيئا لما يقدمه الاستاذ ، بل هم من أسهم بتراجعنا الى الخلف ، وحدهم مصدقون بأنهم يمثلون الشعب ، هم مزيفون جاءت بهم آليات ديمقراطية هشة ، وألاعيب انتخابية مفبركة ، ومفوضيات شكلية غير حقيقية ، والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها .
الاستاذ الجامعي أولى بالحصانة من الذين أوصلونا الى متنفذ لا يحترم الدولة ، وعليه لا يكفينا سوى اعتذار رسمي من الجهات التي ينتسب اليها المتنفذ والقوة الأمنية التي قامت بالاعتداء على استاذنا الكبير كاظم المقدادي .
كلام أبيض … تخيلوا المقدادي معتقلا ! د.جليل الوادي
(Visited 16 times, 1 visits today)