رواية الرؤى والأحداث العجيبة
بقلم : هيام الفرشيشي
“الصالحة” هي الرواية الثالثة لخالد شوكات بعد روايته ” ودران: سيرة آل منصور” الصادرة في 2020 ،ورواية ” السينياريست: قصص حب ريفية” الصادرة في 2022. وقد صدرت عن دار « اركاديا للنشر ». ولئن دارت أحداث رواياته السابقة بين بوادي الايالة وارياف الجمهورية بين القرنين التاسع عشر والقرنالعشرين. فإن الفترة الزمنية لم تختلف في رواية “الصالحة“، ولكن الأمكنة تعددت: غرب ألمانيا، وروما وشرقا، في بلاد الشام ومصر والحجاز والقدس. ولئن حافظ على الريف التونسي وشرق الجزائر فقد تجولبنا من خلال رواية ” الصالحة” بين بلدان ومدن عديدة.
العنوان
العنوان: “الصالحة: قصة الراهبة الألمانية كريستين هاين“ . ثمة ترابط بين الخلفية المسيحيةوالصوفية العربية. بل ترفع شخصية الراهبة إلى الصالحة وهي صفة تتصل بالأولياء الصالحين أصحابالكرامات والرؤى.
غلاف الرواية
غلاف الكتاب عتبة مهمة توحي بمتن الرواية : يتمثل في صورة راهبة لا ترتدي الأسود، بل ترتدي الأزرقالسماوي في علاقته بالارتفاع والفضاء المطلق، وهو لون روحاني، أما وجهها فقد كان بلون التراب، وهولون الجسد والحواس. ووراء وجهها لون يجمع بين البني والأصفر لون الشمس والطاقة. لون الكتاببيدها أصفر وغلافه أسود. ترمز ألوان صورة الغلاف إلى الروح والمادة، الإحساس والحواس.
الاهداء والتقديم:
منذ الإهداء نلمس ترفعا عن الخيال الشعري بل الخيال الحقيقي. خيال الرومنسيين. فالوالدة هي“الصالحة” التي علمت الكاتب يقول ما يفعل، وذلك ضرب من الحكمة. أما الوالد محمد فهو يرمز للطهروالعفة وحب الوطن والدين.
نجد البروفيسورة “آنا ماري” جعلها من الصحابة رضي الله عنها ساهمت في إعادة روحه ونظرته للحياة. وفتحت عينيه على عوالم نورانية كان يجهلها.
ولا يفلت الانتساب إلى الجد الولي “سيدي علي البهلول الشوكي” شيخ الطريقة القادرية الذي قوممساره..
الشاعر الألماني “غوته” الذي جمع بين التصوف والسياسة والعمل العام والأدب والفن والشعر وأقامبين المسيحية والاسلام جسر محبة.
محي الدين ابن عربي وجلال الدين الرومي والحلاج والجنيد والبسطامي وسيدي عبد القادر الجيلاني وسيدي بلحسن الشاذلي وسيدي أحمد الرفاعي وسيدي أحمد التيجاني..
العشاق والمحبين
إهداء خاص إلى بطلي الرواية سيدي الخضر والسيدة الصالحة كريستين أو للا حليمة
عتبات الكتاب تشير بوضوح إلى التقاطعات بين الصوفية والمسيحية. وإلى العودة إلى البعد الذاتي فيكتابة الراوية. فهي تمثل انتسابه لتراث صوفي كما تشير إلى المرجعية الثقافية والروحية المؤثرة فيه،وبذلك كانت شخصياته مرايا له. وكأنه خلقها من ضلعه لتشع خيرا ومحبة.
الفكرة العامة للرواية
راهبة مفتونة بالثقافة العربية والفارسية في الشرق. وتجد تقاطعا بين المسيحية والصوفية فكلاهما ظهرفي الشرق، وبذلك تجسد حنينها للشرق الغامض خاصة بعد قراءة مؤلفات الشاعر الألماني غوته. أما“محمد خضر” المنحدر من سلالة ولي صالح وسمي محمد الخضر تبركا، فقد كان موعودا حسب الإمامالمجهول بنجمة من الشمال، وعليه أن يحافظ عليها. تلتقي الشخصيتان عن طريق الرؤى والأطياف إلىأن يلتقيا في الواقع الحقيقي في احدى المزارات الصوفية في الاسكندرية، يفترقان ، ويسلكان اتجاهاتمختلفة، ثم يكون اللقاء في “تيبار” بدجبة بتونس. فتترك الرهبنة وتعلن إسلامها.
الشرق الغامض
الشرق في الرواية هو المركز الذي تلتف به الشخصيات لرمزيته الدينية والتجارية في آن وخاصة تجارةالأقمشة. فيترافق فيه التجاري بالديني. الشرق منشأ الأديان المتعددة على غرار المسيحية المقترنةبالبساطة والزهد. عكس المسيحية في روما المرتبطة بالبهرج المادي والفني. فكانت وجهة “كريستين” نحو الشرق، أما محمد خضر فكان في رحلة تجارية مع مضيفه عبدالكريم القادري ثم تفرعت لزياراتالقدس والحج…
العجيب في الرواية
لئن اقترن العجيب بمواجهة حدث غير طبيعي للعقل الذي لا يعرف غير قوانين الطبيعة والمنطق، فهو في الرواية يشير إلى تلك الأسرار الخفية والإشارات والإرساليات الغيبية التي لا يدركها إلا من هم منطينة الصالحين. وهو أيضا لا يخلو من مرجعية رومنسية. التي ارتبطت بقراءة الأسرار العلنية في الكون. هي وليدة المسيحية وفكرة الكمال والحقيقة الأسمى في الفن. فالشخصيات الموعودة باللقاء تلتقيعبر الرؤى، وتظهر في الواقع على شكل أطياف، و تسلك طريق الأسفار الصوفية من الشمال ومن الجنوب،وحين تلتقي في بعض الأماكن تتوه عن بعضها، ولكنها تدرك أنها ستلتقي في أرض ما. وبذلك تكشفالشخصيات على وجه أطياف قبل انبرائها حقيقة مادية مجسدة.
والعجيب في الأدب حسب لويس فاكس يقدم شخصياته على شكل “بشر مثلنا .. يجدون أنفسهمفجأة في حضرة المستغلق عن التفسير“. وهذا المستغلق عن التفسير في الأدب يلوذ بالموروث الحكائيوالسير الشعبية والأساطير، ولكن الروائي خالد شوكات يعود الى الكرامات الدينية وما تعج به الدياناتمن خوارق ومعجزات، كما ينهل من حكايات المتصوفة.
اننا امام أحداث غير عادية لا يصدقها العقل، ولكنها ممكنة الحدوث في عالم عجيب. إن العمل الأدبييتجاوز الأحداث الواقعية إلى عالم غامض هو عالم الحدس والرؤى، وليس محض خيال بل هو قابلللتصديق لأنه سبب من الأسباب التي تتنافذ مع الواقع. فنحن لسنا أمام مخلوقات عجيبة بل مخلوقاتإنسانية تعيش بعض الخوارق، وهذا ما يحدث دهشة سرعان ما تتحول إلى يقين.
العجيب النوراني لا عالم الجن والاشباح واللامرئي ومصاصي الدماء والسحرة. الرؤى وعلاقتها بالحقيقة.هي رسالة طمأنينة أي ان اللامرئي لا يبعث على الرعب بل على اليقين.
عمق الشرق المسيحي والصوفي
يربط الكاتب بين جوهر الأديان، كما يربط بين مرجعية الثقافة الغربية بالثقافة الشرقية، وقد وجد فيشعر غوته تلك الصلة بين الغرب والشرق في علاقته بالمرجعية الصوفية العربية والصوفية الفارسيةوالأسفار . ولكنه وجد جسر العبور حنين إلى الأصل، إلى عمق الشرق وسحره وتأثيره. ونجد في ذلك أكثرمن إشارة.
ـ منشأ الصوفية الشرق : كتاب “غوته” الديوان الشرقي للمؤلف الغربي فك طلاسم الشرقالغامض،استوحاه من حافظ الشيرازي، وهو مشبع بخليط اسلامي مسيحي. لذلك نظرت له الكنيسةشاعرا لاهوتيا مخلصا.
ـ منشأ المسيحية الشرق: المسيح ولد في الشرق في فلسطين.
في الاسكندرية عرفت كريستين الكنيسة القبطية الارتودكسية اقدم من الكنيسة البابوية.
ـ الاسلام الصوفي لا يقل في روحانيته عن المسيحية.
قماش الاديان واحد ولكن البدلات التي فصلت فيه متعددة ص123
لذلك تكون سفرات كريستين من ألمانيا الى الشرق توق إلى الأصل. حيث مهبط الأديان. فالشرق أقربإلى تعاليم المسيح، ومخزون الصوفية.
أدب الرحلة
تجلى أدب الرحلة من خلال تنقل الشخصيات شرقا: كريستين من ألمانيا ومحمد الخضر من شرقالجزائر.
يكون طريق كريستين نحو الشرق قد مر على مراحل. رؤيتها للمسيح في منامها.. هناك قوة روحيةغامضة تدعوها نحو الشرق. فقصتها نحو الشرق منذ خرجت مرعوبة من زوج والدتها خائفة على عفتهافجرا السفر الأول الى ميونيخ على الاقدام وهي تشق الغابات. التحاقها بالدير للخلوة والتأمل. الرحلةالثانية الى صديق والدها فرانسيس بروما. في الفاتيكان تكتشف بذاخة العمران والزينة فلا تجد علاقةلها بزهد المسيح. لكنها بحاجة إلى التربية الروحية وشن معركة مع النفس. واختبار حياة الفضيلة إلىجوار الرب وإبنه الفقير. كما اقترنت رحلتها نحو الشرق إلى إشارة طريق واضحة وعليها أن تتبعها. ترىفي حلمها صاحب البرنس الأبيض حاجبه الأيمن مفروق إلى قسمين تركب معه الدابة وتسير جنوبا. وانبرى طيفه في مكتبة الفاتيكان. في الشرق كانت الوجهة الاولى نحو لبنان هي الاسكندرية. كانت لا تميزالكنيسة عن مقامات الصوفية. وصلت في كنيسة القيامة المقدسية . من يافا إلى حيفا، عكا، جبل لبنان،صيدا، ثم بيروت حيث وصلت مقر البطرياكية المارونية. تلتحق بمدرسة الراهبات وتقوي لغتها العربيةوتخدم رسالة المسيح في أي بلد عربي للتخفيف عن المرضى. من قبرص غير بعيد عن مرقد الروميوملهمه التبريزي واضع الرقصة إلى مالطا بلد مسيحي متعصب. إلى تيبار في دجبة بتونس حيث الآباءالبيض يلبسون البسة بيضاء اشتروا ضيعة وبنوا ديرا. وفي رحلتها إلى تونس تتأثر بكتاب الصحفي فارسشدياق الذي أسلم في تونس وأسس أول جريدة وهي “الرائد” . لتمثل تونس فضاء الراحة والنقاء بلونالبيوت البيضاء. وتنتهي الرحلة في تونس في تيبار حين تعالج شابا في غيبوبة جيء به لمستوصفالنصارى فتبين أنه من تعلق مصيرها القدري به …
شخصيات نقية
الشخصيات في الرواية مجبولة على النقاء. كريستين منذ طفولتها وانضمامها إلى الكورال في الكنيسة تأخذها الموسيقى، والتراتيل والترانيم إلى سماوات الإبداع في رحلات إلى عوالم ملائكية. و“محمدالخضر” رمز للبركة والحكمة حتى قبل ولادته كما سماه بلقاسم البوتشيشي القادري بقوله ” سيعلواسمه في سماء العلم باطنا وظاهرا“.
حفظ القران في سن التاسعة، بلغ صيته في توقرت جنوب شرق الجزائر، وواحات ووادي سوف، تعلمالفروسية والرماية في سن الثانية عشرة ، ومغرم بحافظ الشيرازي.
على سبيل الخاتمة
تجمع رواية ” الصالحة“ أدب الرحلة بالمرجعية المسيحية والصوفية في الشرق والمغرب العربيوالتقاطعات الروحانية بينهما، وقد اعتمد الكاتب شوكات على العجيب والاعجاز والإشارات التي تجعلاليقين، والرؤية القدرية محركان للأحداث نحو غايات روحية سامية تشتق منها القيم الانسانية العليا…
.