د.عادل جعفر
استشاري طب نفسي
هجمة قادها مقدم برنامج على قناته على اليوتيوب المسماة “بس يواش مع حيدر جواد “اذ نشر فيديو هاجم فيه الطب النفسي و طالب بإلغائه
ووجدت من المناسب ان ارد على ما قيل في هذه الحلقة!!.
في البدء اود أن اقول ان من يريد ان ينتقد الطب النفسي يجب ان يكون من اهل الدار فأهل مكة ادرى بشعابها !!.
و بذلك يصبح الناقد أكثر تمكناً من أدواته في لمز و هجاء أصحاب الدار و الساكنين فيه بعد ما تشرب من أطلاع و دراية و خبرة من خلال معيشته بهذا الدار.
و هذا لا ينطبق على برنامج (بس يواش )، الذي لو علم ما نعلمه من لذة طبابة النفس البشرية لتزاحم هو ومن يؤيده معنا في إستشعار تلك اللذة!!.
أن ظاهرة وجود مجاميع لا تؤمن بالطب النفسي و تنتقد اساليبه ليست بالشيء الجديد!!.
فعندما تعترض شخصية بقامة توماس ساس على بعض المواضيع المطروحة في الطب النفسي نعطيه الحق و نبقى نقرأ ماذا كتب و نبقى نتذكر طروحاته، فكل علم قابل للنقاش و التطوير.
فقديما قال البروفيسور ساس:
“ليكون المرض موجوداّ بالفعل يجب أن يكون على طاولة التشريح وليس فقط في جسم الإنسان وذلك يقتضي أيضاً أن يتناسب مع مفهوم المرض العضوي بدلاً من إيجاد المفهوم عن طريق تصويت أعضاء ينتسبون للجمعية الأمريكية للطب النفسي”.
فعلى الأقل كان ساس بروفيسوراً في الطب النفسي وأسمه مخلّد في التاريخ و كان معارض للعلاج النفسي القسري، و أكد على موقفه العدائي تجاه الطب النفسي القسري و ليس تجاه الطب النفسي عامة وحسب رأيه أن الطب النفسي ينطبق فقط على البالغين.و قال أن لكل فرد الحق في التمتع باستقلاليته الجسدية والعقلية والحق في الحماية من العنف من قبل الآخرين، لكن هذا لا يعني أن أراء ساس كان لا يعارضها الكثير من علماء الطب النفسي فلا أحد معصوم من أجل العلم و تنقيته و تطويره .
اما آلن فرانسيس الذي ذكره مقدم البرنامج فهو الذي ترأس الفريق الذي عمل على كتابة النسخة الرابعة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” الشهير، الذي هو مرجع الأطباء النفسيين في وقتها قبل ظهور النسخة الخامسة.
و النقد الذي قدمه فرانسيس هو حول ضرورة المحافظة على “السواء”، وخطر التوسع في تشخيص السلوكيات “الطبيعية” ووصمها بالاضطراب النفسي، كالقلق اليومي، والنسيان، وعادات الأكل السيئة، وغيرها. لاسيما وأن خطر تضخم التشخيص يوازيه خطر تجاهل المرضى الحقيقين.و لم يطالب بالغاء الطب النفسي كما طالب بذلك مقدم” بس يواش”
لقد شدد فرانسيس على قدرات الإنسان في الشفاء الذاتي الطبيعي، و حذرنا من ان نتناسى أن معظم المشاكل هي ليست بأمراض، واشار الى ان من النادر ان تكون الأدوية هي الحل الأمثل”.
و هو لم يطالب بالغاء الطب النفسي، بل تحدث عن دور “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” في نسخته الرابعة في التأسيس لثلاثة أوبئة جديدة ، اذ ذكر انه هناك إفراط في تشخيص تشتت الانتباه، والتوحد، واضطراب ثنائي القطب للبالغين. و لم يقل بتاتاً ان هذه الامراض غير موجودة!!.
واوضح فرانسيس أن أكبر ضعف هو عدم الاعتراف بالإجهاد الشديد الذي تسببه الحياة والذي يجعل الحزن ردة الفعل المناسبة له. اذ عندما يحصل أمرًا مريعًا فقد تكون ردة فعل الانسان أسبوعين من الحزن، وفقدان للاهتمامات والطاقة، ومتاعب في النوم والأكل. أذ قال أن كل ذلك يبدو مفهومًا وطبيعيًا.
و كان له تعليق مهم جدا يفهمه الأطباء النفسيين هو أن قدرة البشر على الشعور بالألم العاطفي لها قيمة تكيّف تعادل في غايتها الألم الجسدي وتلك إشارة لا نغفل نحن عنها كأطباء نفسانيين .
كما اوضح ان الشعور بالحزن، وعدم الرضا، والشعور بالإحباط هي ردود فعل طبيعية لمشاكل و مصاعب الحياة ولا يجب أن تشخّص على أنها مرض واضطراب نفسي وتعالج بالأدوية بسرعة
و نحن كأطباء نفسية كلّنا متفقين على ذلك لانه تأتينا حالات كثيرة بعد تعرضها لأحداث حياتية مثل الطلاق، والمرض، وفقدان العمل، والمتاعب المالية، أو نزاعات شخصية تعاني من مشاعر سلبية من قلق و اكتئاب لكننا لا نشخصها انها معاناة تصل لحد المرض النفسي و نذكر لمرضانا انها ردود فعل طبيعية تحتاج الكثير من المرونة والوقت والاستقرار الداخلي للتعامل مع تلك المتاعب و المشاكل و نساعدهم في تخطيها.
كما انه اشار الى ضخامة سوق شركات الأدوية ومتاجرتها بالأمراض و نحن لنا دراية بذلك !! لذلك نعتمد على خبرتنا في العلاج بعد اكتسابنا للخبرة لأنه ببساطة الخبرة تعني التعلم من الأخطاء.
كما نحن كأطباء نفسانيين على دراية ما قالته نصاً الكاتبة جودي بلانكو.:
“في مستشفى الطب النفسي لا يأتينا المرضى، بل ضحاياهم”. و من خلال خبرتنا نستشعر هكذا حالات و هي تحتاج المساعدة لوجود مشكلة في آلية التكيف لديها فالأعراض العصابية يمكن اعتبارها
حالات شديدة من التجارب العاطفية “العادية” مثل الاكتئاب أو القلق أو الذعر
فعادة ما يميل عقلنا إلى تقييم الموقف المجهد بسرعة، وربطه بتجربتنا السابقة ومن ثم وضع استراتيجيات لحماية أنفسنا حتى بدون تكلفة واعية. لكن الصدمات الماضية ،التجارب السيئة والمعتقدات الأساسية السلبية قد تؤدي إلى هندسة استراتيجية غير قادرة على التكيف داخلنا، والتي تسبب في بعض الأحيان المزيد من الخلل والصراعات أكثر من المشكلة الأصلية نفسها.
و هكذا تنشأ الأمراض العصابية التي تكون نتيجة تعثر المسير في تلك الطرق المعقدة التي تسلكها عقولنا لتلبية احتياجاتنا النفسية مثل الأمان، والتحقق من الصحة، والحاجة إلى الانتماء، والدفاع عن الصورة الذاتية، وضمان القامة والقيمة.
لذلك نحن بسهولة نتفهم وجهة نظر بلانكو لأننا نرى هذا من خلال عملنا اليومي!!.
و حتى يفهم القارئ العزيز نقول له أن علاج العصاب ليس سهلاً على الإطلاق، أذ
يتطلب الأمر دافعًا هائلاً من المصاب لمواجهة نفسه، وليس للطب دور كبير جدًا ليلعبه في الصراع العصابي لأن عقلنا هو الذي يخلق الصراع في المقام الأول.
و حتى يكون الكلام علمي ودقيق و ليس رجماً بالغيب اقول ان طرق علاج الاضطرابات العصابية تعتمد على شدة الأعراض وظهورها. فقد يكفي العلاج السلوكي المعرفي (CBT). مع ذلك قد توصف بعض الأدوية لتهدئة القلق والمساعدة على النوم، إلا أنه عندما يبلّغ المريض عن أفكار انتحارية، فقد يتم علاجه أو وضعه في مؤسسة صحية لفترة قصيرة وفقًا لتقدير الطبيب النفسي.
و على الجانب الآخر هناك الامراض الذهانية و هي أمراض لا يمكن تجنب حدوثها عندما تصمم أن تحدث!!.
أذ يمكن تفسير الأمراض الذهانية بشكل أفضل من خلال النموذج البيولوجي للمرض الذي ينص على أن عقولنا تعاني من الذهان بسبب خلل في التوازن الكيميائي العصبي في دماغنا والذي يؤدي بطريقة ما إلى تفكك القدرة النفسية،وهذا هو بالضبط السبب في أن علاج الذهان يكون مباشرًا بالتدخل الطبي الدوائي و لحسن الحظ مع الأدوية الحديثة، أصبح من الممكن الآن لأولئك الذين يعانون من الذهان أن يتمتعوا بحياة طويلة مقبولة وخالية من الأعراض
أن الموقف ضد الطب النفسي anti-psychiatry attitude يمثل اتجاهاً عالمياً معروفا و هو موجود على ارض الواقع
لذلك مقدم البرنامج أستخدم النقل لا العقل !!.
احب ان اقول له أنه لم يقدم شيء جديدا فكل علم أو نظرية لها من يؤيدها، ولها من يخالفها بل من يعاديها في معظم الأحيان.
العجيب أنه طالب بألغاء الاعتراف بالطب النفسي و الغاء العلاج بالصدمات الكهربائية الذي انقذ مئات الألوف من المرضى و أيقاف الادوية التي ساعدت الكثير من الاطفال في علاج الكآبة التي يعانون منها و الكلام يطول في هذا الموضوع.
كما وأغلبنا كأطباء نفسانيين نعلم ما توصّل اليه جولديكر والذي خلص فيه الى ان الجهات المستقلة التي تمول التجارب تكون قليلة المال و عندما تكون نتائجها سلبية فأنها لا تنشر ، بينما نحو 90% من التجارب الإكلينيكية المنشورة ترعاها شركات الأدوية، التي تُهيمن على هذا المجال وتضبط إيقاعه وتضع قواعده”
انك لم ترى كم عدد المرضى الذين انهاروا وانحلت اضطرباتهم مع تدخل الطب النفسي في علاجهم
انك لم تعالج الرجل الذي يعتقد نفسه انه المهدي المنتظر وجاء ليحارب الشر ويقتل الظالمين ، لولا الطب النفسي الذي أنقذه.انك لم تساعد الفتاة التي تبقى كل يوم في الحمام سبع ساعات تغسل جسدها طلبا للطهارة .
و لم تنقذ الفتاة التي خرجت عارية من البيت و تم تشخيصها بأنها مصابة بالفصام و الآن هي بحالة عقلية جيدة تعيش مع زوجها و أطفالها.
انك لم تساعد اشخاص حاولوا الانتحار ناشدين الموت و الطب النفسي ساعدهم
إن الأطباء النفسيين، يشاهدون أكثر من هذه الحالات آلاف المرات، فلا أحد يمكن أن يتوقع عدد الأشخاص، الذين أرواحهم تم انقاذها، والنفوس التي تم معالجتها بالطب النفسي.