عبد المنعم الاعسم
لا شئ يجمع الفجور بالعدالة، الاستبداد بالعدالة، الحكم الفردي بالعدالة، فالفاجر والمستبد والحاكمالمستفرد بقراراته ابعد ما يكونوا عن فكرة العدالة وتطبيقاتها في الواقع. عدالة الحكم او عدالة القضاء،وحتى عدالة ادارة الاسرة.
وفي صفحات التاريخ ومخاضات تشكيل الدول كانت انظمة التفويض الابوية “البطريركية” ومشتقاتها،تخترع توصيف “الدكتاتور العادل” كحل للاضطرابات وحالات الخروج على القانون ومواجهة الانشقاقات،وقد تلقف فكرة “الدكتاتور العادل” كتبة ودجالون وبطانات للطغاة معاصرون، وأعاد بعضهم احياء نظريةفرويد عن “الطوطم” وهو الاب، القوي القدرة، الذي تآمر عليه ابناؤه وقتلوه، ثم عادوا وعبدوه من بعد انشعروا باحتياجهم الى تلك القوة لضبط التوازن بينهم” وإنقاذ ما يمكن انقاذه.”
لكن كل ذلك لم يجمّل سمعة الدكتاتور والدكتاتورية في صفحات التاريخ. كان كاليغولا الذي اتقن حرفة نشرالرعب والموت واصدر مرسوما بتعيين حصانه رئيسا لمجلس الشيوخ لم يخلف من يقول عنه انه (حتىاحيانا) كان عادلا، باستثناء عشيقته التي قالت انه “طفل برئ لا حدود لاحلامه“. وحظى بول بوت الذيارسل مليونين من كمبوديي المدن الى حفلات الموت في الغابات القصية المرعبة بوسام “العدالة” بالمعنىالذي يلفقه اصحاب نظرية الدكتاتور العادل، حيث كان سكان العاصمة “فنوم بنه” الناجون من الإجلاءالقسري يجدون ماء صالحا للشرب ورعاية صحية طيبة وحرية في التجول من على مقربة بقصر الرئيس.
ومنذ عشرينات القرن الماضي بدأت مفاهيم الدكتاتورية تطرح نفسها، في المؤلفات ومعاهد السياسة،والمناقشات، وذلك مع نشوء انظمة الحكم العسكرية السافرة، ثم انظمة الحكم الفردية المستبدة، والشمولية،وصعود الفاشيات الاوربية، والانقلابات العسكرية، حتى استقر المفهوم في جملة من المحددات تتفرع منسلطة الفرد المطلق الذي يملي ارادته على الشعب ويستفرد بالقرارات المصيرية للبلاد ويستخدم القوةوالبطش والتآمر لاخضاع العامة لمشيئته، ويستعين، في الغالب، بحلقة صغيرة من الاتباع (حزب. عسكر. عائلة) لمواجهة المعارضة واحتجاجات السكان، وقد يأذن باجراء انتخابات، مسبقة النتائج، في محاولةلاضفاء الشرعية الشكلية على حكمه.
واستطاعت انظمة الدكتاتورية النموذجية بناء انظمة تبدو قوية ومهيبة من خارجها، كما مكنتها الياتالتحكم بالثروات من تشييد مرافق ومدن وجسور وبيئات امنية وصناعية وتجارية مبنية على الرقابةوالتدخل والخوف، وعلى طي حقائق معاناة الملايين ومصادرة الحريات واعمال القتل المنهجية وابادةالاقليات وقوى المعارضة تحت منظومة ضاربة من الدعاية الغاشمة والرشى التي فاضت على طبالين خارجالبلاد كانت قد وظفت لها اموال سخية طائلة من ثروات الشعوب.
وهذه الايام، يزداد الكلام، المعلن والمدسوس والموحى به، عن حاجة العراق الى صدام حسين “جديد” او لمثيلله، او لمَن يمشي على خطاه في استخدام القوة الباطشة، بزعم ان العامة لا تلتزم القانون إلا بالخوف والردع،وان الديمقراطية والشفافية والانتخابات وبال داهم على البلاد، ومنذ عامين ونيف كان السيد صالح المطلك قداعطى صدام حسين صفة الدكتاتور الذي بنى، في مقارنة لم تكن موفقة مع مسؤول قال انه دكتاتور لا يبني،والغريب ان الاحتجاج على هذه المقارنة لم يكن ليشمل تزكيته لصدام بل اقتصر على الشق الثاني منالمقارنة، وثمة القليلين من طرح السؤال التفصيلي التالي: اذا كان كل بطش صدام لم يمنع من وصوله الىالمزبلة فلماذا يلزم ان نكرر تجربته؟.
والحال، ان حاجتنا الى “دكتاتور عادل” لا تعدو عن سيناريو بائس لانتاج طاغية جديد نتوهم بانه “ينقذالاوضاع” ولا يهم ان يزج المجتمع في اتون الاحتراب والظلم، وأن يأتي بعائلته وابناء قريته او حزيه ليكونواحراس الدولة “المنضبطة” وكم الافواه وتجميل العنجهية والحروب.. انها فكرة من افكار الردة يتورط فيهامثقفون ودعاة وسياسيون، والبعض منهم يضع فيها حشوة فاقعة من البكاء على “وحدة البلاد” التيتمزقت أصلا على يد الدكتاتور نفسه الى شظايا وخطوط عرض ومحميات بقرارات دولية معلنة ومذلة، اوالرأفة بالشعب، لكن الشعب الذي فقد ذاكرته بحيث نسى طوابير القتلى في ماكنة الحرب وقواطع الاعدام،ومنع اقامة العزاء عليهم وحملات سوق الشباب الى حيهات الموت ومحاكم الشارع من دون العودة الىالقضاء، وشواهد الاذلال اليومية والخوف برعاية ابن الدكتاتور، عدا عن المجاعة التي القت بالملايين الىالنزوح والشحاذة وبيع ملابس ومقتنيات وافرشة الاُسَر، فيما خزينة اللدولة وملياراتها وضعت في خدمةالدكتاتور واسرته والحلقة الصغيرة من الاقارب والحراس والحماة.
بكلمة، صارت الدكتاتورية عارا في جبين التاريخ. اما عدالتها فلا تعدو عن كونها كذبة يسوقها انصارالدكتاتوريات الجديدة.. العتيقة.