مثابات الاحتجاج في رواية ) كان هناك ( لمحي الاشيقر

مثابات الاحتجاج في رواية ) كان هناك ( لمحي الاشيقر

الدخول الى العالم الروائي لمحي الأشيقر يستدعى مجموعة
من الترتيبات الذهنية لا تقبل في مجملها التهاون في التركيز
او انفات ايقاع القراءة.. فجملته الروائية منحوتة بطريقة
استفزازية لا تقبل القارئ الكسول او المتهاون في استلذاذ
الكلمة فتتوقف الجملة فجأة عن الادراك ما لم يستدركها
القارئ نفسه ويعيد نسق القراءة وفق ما مرسوم لها بدقة
الصائغ الحاذق..انها نوع من التحدي الذي يواجهك حتى لو
كنت من نهام القراءة او عبادها.. هذا الاستفزاز كان مدخا
لروايته )كان هناك( التي تفتح الباب امام سيلا من الاحتمالات
كشريط سينمائي تعمد المخرج فيه رمينا في اتون الحكايات
فجاة ومن علو شاهق!
سالم الذي سيقود حكايتنا يحمل سمات البطل الروائي الصلب
والعاكس لثقافة اريد لها ان تافل او تحجم او تزول.. وهي
سمات البطل الثوري السبعيني الذي رفض تكمييم الأفواه
والرضوخ الى ما تريده السلطة فيعمل على اقصى حالات
الاحتجاج منتقما من رمز تلك السلطة )هارون( رجل الامن
الذي يوغل بايذائه والتحقيق معه اسبوعيا بسبب اختفاء اخيه
الاكبر همام الذي التحق بصفوف الثورة الفلسطينية فيخطط
سالم للانتقام منه واذلاله تاركا تذكارا عميقا بوجهه ثم
يقرر بعدها مغادرة باده التي يتنفسها حبا وعشقا!!
سالم بطل الرواية الذي خرج من مدينة مقدسة )كرباء(
متلبسا بقيم البسالة التي يحملها جده المقاوم للطغاة
والخالد عبر العصور لم يكن اختيارا عشوائيا او صدفيا من
قبل الروائي ذاته.. بل كان فعا مقصودا يمكن استنطاق
دلالاته من مجرى احداث الرواية.. حتى لو تماهى البطل مع
شخصية السارد ذاته، فالبطل الملحمي يختار مصيره بدقة
بل ويرسم تلك النهاية بريشة حتى لو كان الدم القاني
سيد المشهد ومن امثلتها )كأن باوصالي هذه تقطعها
عسان الفاوت( )الأمام الحسين بن علي في واقعة الطف(
)ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟ قولي لي كيف استطيع أن
أحبك إذا لم أكن حرا ( )لوركا لحظة اعدامه( ومن هنا فالبطل
لدى محي الاشيقر يختار مصيره بنفسه وعلى دراية وتعمد..
فاختيار سالم ان يكون فدائيا في منظمة التحرير الفلسطينية
لم يكن عشوائيا ايضا، فقد ذهب الى هذا الهدف منذ
قرر مغادرة بلده في اولى صفحات الرواية طالبا من
صديقه ان يفتح نوافذ السيارة كلها ليستشق الهواء
بعد ان تخلص من عسس الطريق.. تعبيرا عن ما
تركته السلطة من خراب احال كل شيء الى ركام
فاسد.
ان الجو العام للرواية بما يحمله من مصير مأساوي
في النهاية يغري بمتابعته كواقع هيلوغرافي يفصلك عنه
حاجز ضوئي شفاف.. فكيف مثا ان يواجه فردا مثقفا متعلما
انيقا عاشقا حرا مناضلا..طغاة او دولة تملك احدث اسلحة
الكون وهو يعرف تماما انه يواجهها بقلمه وحبه السرمدي
للحرية..انها مواجهة خاسرة بالحسابات التقليدية غير انها
من يمنح البطل ميزته الشهيرة الا وهي سخريته بالموت
كفعل يوقف الحياة الفيزيائية مطلقا العنان للخلود الابدي..
ربما تلك الوصفة العجيبة التي وضعها الثوار في جيوبهم
وهم يتقدمون باصرار نحو الموت.. لم تكن سوى الموت
نفسه فباتوا لا يخشونه ابدا بل يستقبلوه بابتسامة كصديق
قديم حل بهم ضيفا بعد فراق طويل!!
ان الطريق السردي في الرواية )طريق الحرير( كما جاءت
تسميته على لسان البطل نفسه البادئ في الطريق الموصل
الى سورية عبر الحدود الصحراوية سبقته طرق فرعية متعددة
تشير كلها الى كرباء المدينة ذات الدلالات المتشظية ثم
بغداد قلب السلطة والمركز المهيمن مرورا بالحدود التي
تتعدى مكانية الحدث الى رمزية الخاص ثم حمص وبعدها
دمشق الحاضن الدافئ للهاربين من العراقيين بحثا عن
الأمان او الرزق او العشق مرورا ببيروت المدينة التي تلخص
فكرة الجمال المنتهك عبر عصور النضال القومي المؤدلج!
هذا الطريق الذي سارت عليه الاحدات شكل بنية معمارية
لخط سير الاحداث الساخنة التي شهدتها المنطقة منذ
اربعينات القرن الأخير وحتى يومنا هذا.. واذا كانت الرواية
قد صدرت قبل عشرين عام ونيف فان قرأتها اليوم تعطي
دلالة تنبؤية للمؤلف تعكس حسه لما كان او سيكون في
هذا الخط الناقل للاحداث ذهابا وايابا!
غير ان المدهش والمصنوع بدراية في المتن الحكائي للرواية
هو تصويرها الدقيق لفترة زمنية مهمة في تاريخ جيل
شبابي ثوري قرر ان يعتنق
فكرة الحرية بما تحمله
تلك الفكرة من ابعاد
رومانسية ويغامر
بحياته رغم
عشقهم
المتناهي للحياة!! وهو سؤال ظلت الإجابة عنه مبهمة حتى
يومنا هذا، فهل عشق الحياة ذاك دفعهم الى اختيار درب
الموت القصير؟
حكاية سالم ورجل الامن المتسلط في مدن وقرى الجنوب
العراقي واحدة من الاف الحكايات التي حدثت بالفعل، بل انها
تتخذ اشكالا تتراوح بين البشاعة واللامعقول واسهاب الكاتب
في رسم شخصية هارون رجل الامن وكلماته المقززة التي
يطلقها بوجه الناس عبر اكثر من حدث في الرواية ، شكل
بؤرة سببية ناجحة تماما في مواصلة البناء المعماري للنص
الحكائي للرواية بما حملته من احداث جانبية سارت بمنوال
مستقيم نحو هدفها النهائي كاشفة عن عالم ظل مخبوئا
لدى من قام بالمغامرة فقط وهي مقاربة تشبه كثيرا
اكتشاف اثر مهم من قبل منقب حاذق سنعرف بمعادلة
سردية عجيبة انه هو -اي المنقب- من بنى ذلك الاثر او
ساهم به وكان واثقا انه يستطيع ان يميط اللثام عنه بدقة
عالية.
بحث سالم عن اخيه همام ودابه المستمر للوصول اليه
شكل منعطفا دلاليا بارزا في متن النص فهمام الذي
وصلت اخبار موته مع بعض اغراضه الى اهله في العراق
لم تكن كافية لاقناع رجال الامن بموته ولا اهله ايضا
وبات البحث عنه من قبل سالم ضرورة قصوى متتبعا
اخباره من الذين التقى بهم همام او عاش معهم. لكن
همام يبقى صورة عائمة ظلت معلقة في جدار الرواية
دون ان نجد لها بعدا فيزيقيا سوى سالم نفسه!!
ولكون محي الاشيقر قد تملكته فكرة البطل
الملحمي بما يحمله من نبل وشهامة واباء فقد
كان المشهد الأخير يحمل خبر استشهاده معززا
فكرة خلود الثورة وافول الجسد وهي تتطابق
مع مصير كل الخالدين من قبل.
غير ان السؤال الذي يواجهك خارج المتن الروائي
ل)كان هناك( هو :هل ان القيم التي حملها بطل
الرواية )سالم( وتغربه عن وطنه وحنينه الراعف
له ولمراتع صباه كان مجرد حياة عاشها وانتهت ساعة
استشهاده ام هي شهادة لجيل من الشباب العراقي ظلت
صور بطولاتهم او مغامراتهم غائبة عن امة بأكملها؟ وهل
ما يحمله من نفد منهم الى عالم الاغتراب البعيد لم يكن الا
موتا اخر مؤجل يحمل في نهايته لافتة نعي سوداء توضع
على جدار لتذروها الرياح بعد برهة من الزمن؟ هل كانت
تلك المغامرات الأسطورية مجرد حيوات عابرة مرت دون
ضجيج ام حيوات شاهدة عن عالم يلغ في السفهاء كما تلغ
الكلاب في صحن من المعدن الصدأ؟
وهل تخيل اولئك المغامرون ان ثورتهم للخاص ستنتهي
في جيوب المقاول الثوري الذي سيتساقط سمن الخيانة من
شاربه وهو يتجشأ عشائه السمين ؟!!
وهل هذه الاسئلة هي التي حدت بمحي الاشيقر ان يختار
اسم )كان هناك( كشطر جملة منقوصة يمكنك كقارئ ان
تستنجه بعبارة مكملة هي: … ايها العالم الجاحد!!

(Visited 61 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *