بين جلد الذات والمراجعة
إبراهيم أحمد
كثيرا ما يخلط البعض بين ما يسمى “جلد الذات“ و“المراجعة “. بينما الفرق شاسع بين النهجين. إلى حدأنهما نوعان من التفكير مختلفان تماماً! “فجلد الذات“ حالة من النبش والحفر العاطفي الانفعالي فيالأعماق نتيجة إدراك متأخر للخيبة أو الفشل وإلقاء اللوم على النفس وتبرئة الآخرين من أية جريرة في ماحصل تحت تأثير قناعات أخلاقية أو دينية أو تقدير غير دقيق للعدالة والقانون! وهي حالة تتعدى الشعوربالذنب وتأنيب الضمير المعقول إلى نزعة قهر الذات وإنزال العقاب فيها بأقسى قدر وبسلسلة تبدأ منالتصورات الذهنية والأفكار القاسية والمدمرة إلى الانتحار المعنوي أو الجسدي! وعموما هي حالة سلبيةانهزامية قاتلة لكنها في معيار العدالة الإنسانية أفضل من حالة الركون للتحجر والجمود والضمير الميتوالاصطفاف مع الشر والباطل والغباء المستفحل بين حشود كبيرة وإلى ما لانهاية . أما “المراجعة” فهيشيء آخر تماما ، إنها تأمل المرء بعمق لمسار ذاته لوحدها أو في وجودها ونشاطها ضمن ركب كبير سواءكان حزبا أو حركة سياسية أو دينية أو مجتمع بأسره فينبري لتحليله بما امتلك من وعي جديد عبر تراكممعرفي أو خبرات حياتية وتجارب قاسية فيصل إلى ذروة يجد المرء نفسه في نقيض ما أعتقد أو آمن به،وضد كل ما سار عليه مع هذه الجموع الغفيرة فيتحدث عن كل ذلك بصراحة وعمق وموضوعية. وحسبقدراته! بعبارة أخرى مقاربة الذات والبوح بمكنونها بواقعية مطلقة قد تبدو جارحة وموجعة أحيانا،ولكنهاتظل غير خطرة أو مدمرة بل على العكس هي بناءة ومثمرة. بذلك طبعا سيجد من يقوم بالمراجعة نفسه فيخضم آلام شعبه كلها، مواجها السؤال الأساسي ” لماذا حدث كل هذا؟، كيف حدث؟ ومن يقف وراءه؟ أينالخلل؟ وهل يكفي أن نلقيه على شماعة الأعداء ونستريح؟ وهذه العملية مهما بدت كئيبة وحزينة لكنهاتحمل فحوى المستقبل وآماله، وهي أبعد ما تكون عن جلد الذات بل تتم في إطار احترام الذات، واحترامالآخرين من خلالها ، وهي ضرورة لا تحصل من أجل النفس بل من أجل الناس والأجيال القادمة كي لا تتكررالمأساة ويتوالى الخطأ وتحل الكوارث والنكبات.عند هذا يجد المرء نفسه في فراق أو اغتراب عن الفكرة التياعتنقها بتأثير بيئة ضاغطة وضعف مداركه السابقة حين كان شابا يافعا قليل الخبرة والمعرفة والآن يحتاجلجرأة وشجاعة فائقة لمغادرتها. والإنسان له كل الحق في هذه المراجعة فهي كنه وجوده وحريته، كما لا يحقلغيره منعها أو الوقوف بوجهها لإحباطها فهم بذلك يمارسون سلبا لحرية الآخرين ووجودهم. لكن من حقهمقبولها أو رفضها وضمن الحدود الإنسانية . المراجعة مأثرة وواجب يمارسه مثقفون ومبدعون عادة بوعيمتأخر أو في وقت مناسب يحتم عليهم دق جرس الإنذار وإشهار خلاصة ما توصلوا إليه واقتنعوا بصوابهأو دقته، لكن من قام بالمراجعة في مجتمعاتنا خاصة يجد نفسه في خضم صراع أو حرب شعواء ظالمة معكثيرين خاصة الرعيل القديم الذي كان معه تحت خيمة الفكرة السابقة! وهم متمسكون بأفكارهم القديمة رغمكل ما حدث من كوارث ومصائب للشعب والوطن. والتي لم تكن بمعزل عن تلك الأفكار والمواقف ومساراتهاواستنتاجاتها الخاطئة! كل ذلك بحجة الصمود والثبات على المبدأ رغم مضي عشرات السنين على انطلاقهوعدم مراجعته وتطويره من قبلهم! المراجعة العميقة والجريئة والتي تمثل نموذجا في شجاعة العقل ونقاءالضمير كثيرا ما قادت مفكرين ومبدعين همهم وشعارهم البحث عن الحقيقة إلى السجون أو الموت بيد حكاممستبدين متجبرين يرفضون أي حوار أو جدل رغم ادعاهم للديمقراطية. ودفعت من نجوا إلى المنافي حيثألفوا أطروحات وروايات و قصائد بموضوعها الأزلي ممجدين العقل الإنساني في كونه في جوهره حيويامتحركا يتطلع للتغيير أبدا لا جامدا أو متحجرا،يركن لتفسيرات وتحليلات حكام وقادة سياسيين جهلةأغبياء ترهلوا في مواقعهم وما تمنحه لهم من نعم وامتيازات بينما يدفع الثمن الباهظ الناس البسطاء أوما يسميهم العراقيون ” ولد الخايبة“! معسكر عدم المراجعة والتصدي للمراجعين بالقوة والعنف حيث لافكر لديهم تتلخص حجتهم بالثبات على المبدأ وتقديسه واعتباره معصوما وكلي القدرة! وقد تعمد بدماء آلاف الشهداء. بينما الواقع يستصرخه للحركة والتطور والخروج من مكانه القديم وقد أصبح آسنا لركودهزمنا طويلا !
ولعل أشهر صيحات ودعوات المراجعة والتغيير في التاريخ الحديث هي صيحة كورباجوف في الاتحادالسوفيتي سابقا عبر البرسترويكا والغلاسنوست والتي أفضت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي لا لخطئها بللكونها جاءت متأخرة وبعد فوات الأوان، حيث كان قادته السابقون يرفضون أي نقد أو مراجعة ويضعون منيبدي رأيا مخالفا في معسكرات الاعتقال في سيبريا وغيرها من سجونهم الرهيبة. حتى استيقظوا أخيراعلى الحقيقة المرة أن ما يبنى على الخطأ ينهار بهبة ريح! ويبدو أن الصين استفادت من تجربة السوفيتالفاشلة ومن تجاربها إبان الثورة الثقافية واقتربت من المقولة الشهيرة : (النظرية رمادية، والحياة خضراء) ،وها هي اليوم تتطور وتفرض نفسها في الساحة الدولية كقوة عظمى منافسة للكثيرين. وهي أيضا معرضةللانهيار إذا جمدت على نظرية معصومة وادعت قوة خارقة للمستحيل. وعلى صعيد الثقافة العربية الفتالكثير من الكتب في المراجعات العميقة والجريئة حول النكسات والهزائم خاصة بعد هزيمة حزيران 1967 والواقع المتخلف منذ عهد طويل و يبرز في هذا المضمار كتاب توفيق الحكيم “عودة الوعي” ، رغم أن رواياتنجيب محفوظ تكاد تكون كلها صرخات وعي متفجر وتنبيه ضد الأخطاء والأوضاع السيئة في مجتمعه،وأنظمة حكمه . وفي انجلترا كانت مسرحية ( انظر للوراء بغضب) لجون أوزبورن بداية الستينات من القرنالماضي ، انطلاق موجة مراجعات لم تتوقف حتى اليوم. وفي جميع أنحاء العالم لم تتوقف المراجعةوالتمحيص من قبل مفكرين ومبدعين عبر الرواية والشعر والأفلام تتصدى للخطأ والانحراف وتجاهلالحقائق وذلك بعقل ناضج وضمير حي يراقب بدقة ونزاهة مطلقا صيحات التنبيه والاعتراض والإدانة كلماوضع يده على الخلل ومجافاة الواقع وقوانينه الموضوعية، أو تنكر للقيم الإنسانية الكبرى! وهؤلاء يرون أنإبداعهم لا يتنافى مع تطلعهم ونضالهم من أجل حياة صحيحة عادلة لا تتبجح بالسعادة الوهمية بل تعملعلى تحقيقها بدأب وصدق! والعراق الذي هو اليوم في لجة انهيار وسقوط لم يشهدهما طيلة تاريخهالحديث والقديم أحوج ما يكون لمراجعة عميقة دائبة لماضيه السياسي والثقافي والديني من قبل مثقفيهومبدعيه لا ينبغي أن توقفها أو ترعبها تحفظات وتشريعات أو مقاومة فكرية أو مادية من هذه الجهة أو تلكخاصة لدى المستفيدين من جهل وتجهيل وغفلة الكثير من الناس بوصم كل مراجعة على أنها ” جلد الذات” وإنها “حالة مرضية” أو أنها مروق أخلاقي وخرق قانوني . ومن المفارقات المضحكة المبكية أن من يقول ذلكهم مرضى جمودهم وتحجرهم وتخلفهم و“ساديتهم” الموغلة في تدمير الوطن والناس والحياة!