د.خالد شوكات / كاتب ووزير تونسي سابق
مازلت مصرّا على أن أمريكا اللاتينية – لا أوربا الشرقية– هي الأقرب للعالم العربي منحيث الروح والقياس والتجربة والاستفادة من الدروس والعبر التاريخية المسطّرة،خصوصا في مبحث الانتقال الديمقراطي، وكثرة الانقلابات العسكرية، والتقلّباتالسياسية، والصراع الاقتصادي والاجتماعي بين مختلف القوى ذات النفوذ والمصالحالطبقية، وتداخل المدني والعسكري والامني، والولع بنظريات المنقذ والمخلِّص وتدخلّالغرب في الشؤون الداخلية خصوصا عبر المؤسسات المالية المانحة كصندوق النقدالدولي والبنك العالمي، والحلم بالوحدة “عبر القارِّيَّة“، وأيضا مركزية القضيةالفلسطينية وانقسام النخب والرأي العام حولها، ومظاهر كثيرة لا تعدّ ولا تحصى فيتشابه المقدّمات غالبا واختلاف النتائج أحيانا.
ولعلّ ما يجعل العالمين العربي الاسلامي والأمريكي اللاتيني متشابها، على الرغم مناختلاف السياقات التاريخية والبنيات الاجتماعية والاقتصادية العميقة بين الطرفين، هوان تشكل الدولة الوطنية من جهة والتصادم مع الغرب من جهة ثانية، انطلق في كليهمافي بداية القرن التاسع عشر، وتبلور عبر العقود من خلال مواجهة الاستعمار المباشر اوالتهديدات الاستعمارية، الاسبانية في حالة امريكا اللاتينية، والفرنسية الانجليزية فيحالة العالم العربي، وقد برزت ضمن هذه التحولات الكبرى قيادات المحررين من بناةالدول الوطنية ومتزعمي الحركات الوحدوية على غرار سيمون بوليفار في امريكااللاتينية ومحمد علي باشا في مصر ومحيطها المشرقي العربي خاصة.
أمّا في بداية القرن العشرين، وخصوصا بعد انتصار الثورة البولشيفية وبروز الاتحادالسوفيتي كزعيم للحركة الشيوعية على الساحة الدولية، فقد تحوّلت الساحتانالامريكية اللاتينية والعربية الى مجال للتداولات بين أنظمة شمولية يمينية ويسارية،تتخللها احيانا تجارب ديمقراطية تعددية غالبا ما كانت محدودة زمنيا، وخصوصا فضاءلبروز زعامات كاريزماتية كثيرا ما يتحوّلون إلى طغاة ومستبدين، وكانوا ذوي خلفياتمتباينة يمينية ويسارية، بعضهم كان مواليا للروس السوفيات وبعضهم الاخر كانتعميلا للولايات المتحدة الامريكية.
بعد انهيار المعسكر الشرقي في بداية التسعينيات من القرن العشرين، لم ييأس اليسارفي امريكا اللاتينية ولم يستسلم لنهاية التاريخ كما رسمها فوكوياما، وظلّت كوباكاسترو متمسكة بخياراتها المعاندة لواشنطن، وتبلورت نظريات نقدية جديدةللديمقراطية الليبرالية ستدفع بجيل جديد من القادة السياسيين اليساريين في جلامريكا اللاتينية كان ابرزهم على الإطلاق رئيس فنزويلا المنتخب سنة 1998، هوغوشافيز الذي كان ضابطا عسكريا قاد انقلابا فاشلا سنة 1992، وأسس مع رفاقه بعدخروجه من السجن حركة الجمهورية الخامسة التي جمعت بين عناصر من فكر بوليفارالتحرري القومي اللاتيني وعناصر اخرى من الفكر اليساري الراديكالي المنحاز بوضوحللطبقات الفقيرة والمهمشة.
كانت فنزويلا في نظر المهتمين بشؤون القارة الامريكية ديمقراطية تعددية مستقرّة منذسبعينيات القرن الماضي، فشلا عن كونها الدولة الأغنى بالثروات النفطية، لكن الفوارقالطبقية والافلاس الاخلاقي للنخب السياسية كان سببا بحسب الاطروحة اليساريةالجديدة التي قادها شافيز في تحويل الديمقراطية الى ما سمي بديكتاتورية الاحزابوالنخب او ما وصفه البعض ب“الديمقراطية الشكلانية” باعتبارها مفرغة من اي محتوىاقتصادي واجتماعي حقيقي، وقد عبّر هذا الرأي عن قناعة الكثير من أبناء الطبقاتالدنيا التي ضاقت ذرعاً بوصفات الاصلاح التي يشترطها غالبا صندوق النقد الدولي،والتي عادت ما تحمل معها اثارا موجعة لضعاف الحال.
لكن تجارب تصحيح المسار التي قادها زعماء اليسار الجديد في فنزويلا وغالبية دولامريكا اللاتينية لم تكن دائما موفقة، بل انها قادت الى تجارب حصار مريرة عمّقت معاناةالشعب الفنزويلي وشعوب اخرى أعلنت التحدي نفسه.
ان المشروع البوليفاري اليساري الذي قاده تشافيز وما يزال يقود فنزويلا الى اليوم منخلال خليفته الرئيس مادورو، فضلا على استناده لخليط فكري وأيديولوجي وسياسيمن مصادر متعددة، فقد قام من الناحية العملية ايضا على تحالف عسكري مدني وخليطبين مجموعات عسكرية واُخرى حزبية مدنية، فقد كانت مجموعات داخل الجيشالفنزويلي غالبيتها من أفراد ذوي اصول اجتماعية متواضعة، قد وصلت الى ذاتالقناعات التي وصلت إليها جماعات سياسية يسارية وثورية من ان النظام الديمقراطيفي صيغته التي كانت سائدة قبل انقلاب شافيز ورفاقه قد انتهت الى الافلاس وحان وقتالتغيير، غير ان النقد النظري للتجربة الديمقراطية على الرغم من وجاهته في بعضمناحيه، إِلَّا أن التجربة العملية والتطبيقية لم تغّير كثيرا في حياة الفنزويليين، بل لربماقادت الى خلاف المراد منها، ففنزويلا اليوم، مثل كوبا بالامس، انتهت الى دولة مارقةمحاصرة لا تستطيع بيع نفطها في السوق الدولية التي تهيمن عليها القوى الغربية،ولئن كانت السيادة الوطنية واستقلال القرار مسائل شديدة الاهمية في عند الدول، فإنهاعند الشعوب ومع مرور الزمن وتعاقب المحن ستفقد قيمتها تدريجيا.