وسام رشيد
حتى عام 1980 وبداية عمليات التعريب لمناطق كركوك واستثمار الحرب لضرب النسيج الاجتماعي المتصالح لعقود طويلة من الزمان لم يكن واقع كركوك محوراً للصراع بين أي قوى كانت سائدة في تلك الفترة رغم قلتها ومحدودية مساحة تحركها التي ظهرت فيما بعد تحت عنوان موحد هو حفظ مصالح المكوّن، هذا الشعار الذي نزف من أجلها شعب كركوك دماءً وأموال ومستقبل أبنائه.
بعد ان تم تجريف الكثير من القرى والمناطق الكردية لصالح العرب في كردستان وبعض مناطق كركوك، كان لابد ان يكون هناك ردود فعل محسوبة في حالة سقوط النظام، وهذا ما حدث فعلاً بعد عام 2003، اذ قام الكرد بعمليات مماثلة لما فعله النظام حينها، فبدأت صفحة جديدة من التكريد وجذب المواطنين من المُسفرين سابقاً او من عناصر الاحزاب وخاصة من كوادر الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) وتوسع نفوذهم ليشمل مساحات واسعة من المدينة وقراها وأريافها والمناطق المحاذية لحدود الاقليم من الجهة الغربية باتجاه اربيل، ساعدهم في ذلك الادارة المحلية للمدينة التي اصبحت جزء من ماكنة تنفيذ سياسات البارتي واليكتي ( حزب الاتحاد الكردستاني بزعامة جلال طالباني اذناك).
وتبعاً لتلك العمليات الممنهجة التي جرت عبر سنين من قوة الاقليم وضعف المركز اذ لعب الكرد دور بيضة القبان في كل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005 لغاية 2014، مستغلين تلك الظروف لصالح مزيداً من الاستحواذ والنفوذ على حساب العرب الذين اقسموا بدورهم بين سنة وشيعة متشددين ومعتدلين مؤدلجين ومستقلين توزعت ولائاتهم وتبعياتهم السياسي على عدد الاحزاب السنية والشيعية المتصارعة في عموم 15 محافظة عراقية، ولم يستطع اي حزب او كيان من تلك الاحزاب تشكيل قوة حقيقية تستطيع المنافسة والتصدي لقوة وكيان الحزبين الكرديين الرئيسيين المنسجمين في كركوك.
فيما ذهب جانب كبير من ممثلي التركمان لزج الجمهورية التركية في الصراع، معتمدين على صولهم العثمانية في المنطقة وعلاقات رابطة الدم والولاء فيما بينهم، مما زاد من تعقيدات المسألة الكركوكية وبرغم عدم قدرتهم من تحقيق اي موازنة سياسية او امنية مع باقي الاطراف الكردية الصاعدة في المحافظة، حتى انسحب ذلك على عدة ممارسات اجتماعية كانت تنقص من وجودهم في مدينهم التي تجذروا فيها.
جاء الاستفتاء الكردي حول الاستقلال عام 2017 ليشكل نقطة تحول كبيرة في حجم قوة ونفوذ الكرد في كركوك، اذا لم تكون ردة فعل الحكومة المركزية في بغداد بزعامة العبادي محسوبة كباقي خطوات الحزب الحاكم في اربيل، فقد اوقف المركز كل تلك العمليات وازاح مقرات الحزبين في كركوك وديالى والموصل وتكريت، وافشل الاستفتاء، واقف عملية التكريد التي جرت وفق المادة 14 من قانون ادارة الدولة لسنة 2005، والتي تنص على ارجاع جميع من تم تسفيرهم قسراً في عهد النظام السابق من الكرد، تلك المادة التي تم استغلالها بقسوة، واحداث تغييراً ديمغرافياً واضحاً لصالح الكرد في كركوك، بعلم وموافقة جميع افراد الطبقة السياسية الحاكمة من السنة والشيعة العرب الذين لا يهتمون كثيراً في واقع المدنية وما يشكله هذا الاهمال من خطورة نتيجة تراكم تلك السياسات وافرازاتها على المجتمعات المتعايشة منذ مئات السنين في كركوك.
الانظمة السياسية في العراق لا تهتم ببناء منهج سياسي عادل دون اقصاء وتحجيم الاخر، وضرب مقومات الدولة من الداخل لتكون عُقد تحاصر مستقبل الامة العراقية وشعبها المتعدد الاعراق والمذاهب، والغالب عليه نزعات اصولية قد لا تكون مرغوبة لكنها حتمية في تشكيل السياسات العامة للاحزاب المتنفذة، وخاصة في منطقة كركوك.
فبعد اربعين عاماً من التعريب والتكريد وما رافقتها من ردود افعال كلٌ حسب مصلحته ودفوعه، اصبحت كركوك قضية، بعد ان محافظة عراقية تتنوع عرقياً بالوان الشعب العراقي، لتصبح مطمح كل فئة وجهة تمثل تياراً او مكوّناً، فهي فهي للكرد بمثل منزلة القدس للمسلمين، وللعرب كذلك وللتركمان، وقد تفلح إجراءآت السوداني الان في الوصول بالمدينة الى اجراء الانتخابات المحلية لكنها في ظل ازمة الثقة والاحتقان قد تكون نتائجها سبباً لاندلاع احداث يصعب التكهن بخطورتها على مستقبل واستقرار المحافظة.