آل بركات” يفجرون أبجدية أوروك وساحرهم يغوي شبعاد!

آل بركات” يفجرون أبجدية أوروك وساحرهم يغوي شبعاد!

. آلاء عبد الحي

الناسك الأرستقراطي
لم يسمح لاحد المثول أمامه لصرامته ولم يتجرأ احد على فك طلاسم لثامه, اودع أبناءه في قبو النجوم ولقنهم تعويذة الضوء, ثم دون وجوههم, ضحكاتهم, بكائهم, خطواتهم في دهان الألوان, ترك في خرائطهم رسمه الانطباعي وكل ما تحمل روحه من نقيض من عطف وقساوة, فتارة تجده الناسك الزاهد بالنبل والشجاعة والكرم, وتارة أخرى تجده المراوغ الأرستقراطي المعاصر للسلاطين والنبلاء. علي محمد ال بركات الرسام الانطباعي الذي لم يعقد هدنة مع الحياة عاشها بقساوتها وترفها, دون ذلك في رسوماته الانطباعية عشق غسق أوروك وأبجديتها, وعلم أبناءه أبجدية الهطول, افل نجمه ولم يشهد طوفانهم!
يستذكره نجله الفنان طاهر بركات الموسيقي وعازف الكمان المحترف قائلا: “والدي فنان تصويري ولديه القدرة على تحريك الصورة بالألوان, ولتكون اكثر واقعية كان يهبها روحه!, حيث يصف احدى لوحاته بإتقان وكانه يرى المشهد, تسير النساء بخط متواز ونسق واحد على صراط سكك الحديد “القطارات”, وهن يحملن “الجرات” على رؤوسهن لنقل الماء تاركات ورائهن النهر يهذي! يوصف ال بركات الحدث, بكلمات عظيمة تسيل بانسيابية عبر خامة صوته الجميل, ليسلب مشاعرنا وتكتمل عندنا الصورة”, ” يل شايلة الجرة هناك يحليوة يبنية, اسكيني يابنت العرب من ايدج المية”.

العابث بصليب مالطة..
من ثقب الباب قفزت روحه إلى عوالم عصرية تسبق أوانها, ففي ستينيات القرن المنصرم كان ينظر لانتصاراته عبر عدسة زجاجية, حيث امتلك الشجاعة في ريعان شبابه وجازف في عقد هدنة مع الصمت فكان يطيل النظر إلى عوالمها وكانه عراف في مدن الضوء. كان مولعا بالفنون السينمائية حيث تشعب في عوالمها المبهرة, دفعه شغفه إلى اختراعات عظيمة بتجارب وأدوات بسيطة “غرفة مظلمة, محارب, عدسة, وثقب باب”, هكذا هي حياتك أيها المحارب بالمقلوب!

يحيى بركات الفنان السماوي الذي لم يسلط ضوء الأعلام عليه, هو الفنار في عتمه روحه, العابث في صليب مالطة, الأسير في الفانوس السحري, الذي رفض الإقامة في الجزر الرمادية. في مجال السينما كان لديه الكثير من المحاولات والاختراعات العظيمة, في رحلته الحياتية وعبر عوالم الزمن واصل يحيى بركات السير بحذر منطلقا من ارض أوروك إلى بغداد العاصمة, واصل تعليمه الدراسي في معهد التكنولوجيا/ قسم الكهرباء, حيث كانت لبيئته الفنية الخصبة دورا في تشكيل موهبته, اذ دفعه شغفه إلى عالم الاكتشاف, كان مولع بالعدسات وانعكاساتها حيث صنع اله ” الداتا شو”, كما جازف في تشكيل صليب مالطة السينمائي الخاص بالأشرطة, حيث اسهم في زيادته سرعة قفز الصورة وتقصير اللقطات, وكذلك قام بصنع العارضة السينمائية, وعمل أيضا مختبرا لتحميض الصور الفوتوغرافية والأفلام السينمائية. كما استطاع بمهارته ان يحول الرمادية منها ” الأسود والأبيض” وينقل شخوصها إلى عالم الألوان.
يملك يحيى خامة صوتية هائلة وعذبة, ولدية العديد من الابتكارات والاختراعات غير المسجلة, قرر الصمت والانزواء بعيدا عن عوالم التفاهة وصخبها, حيث أودعه والده في قبو نجمة, هو يشع ليس بحاجة إلى فنار الحداثة.
الثورة الموسيقية..
هذا ما تحتاج اليه الموسيقى الأن ” ثورة”, والبحث عن مارد الخرائط وتتبع خطاه, ومن هنا ابعث دعوة إلى الجميع لتوثيق أسطورته, من غبار أورك عزف يبعث النور, يتسبب في سهاد ليلنا ويزيح عن فجر السماوة الدموع. خرج من لوحات والده مخضب بألوان الفن والنبل والأصالة, بدأت ملامح الوعي تتضح عليه منذ صباه, كيف لا وهو الذي تربى في بيئة مليئة بالإبداعات وتضج بالمعرفة.
بعزفه المحترف وإمكانياته الموسيقية الهائلة, ولدت تونات هجينة على أنامله وأفرغت الأرواح شجونها عند تراتيل صوته العذب, يبعث دعواته عبر انغامه الشجية لينتزعنا من دواخلنا عنوة, ويدخلنا عوالمه السحرية انه يضيء عالم الوجود, بعزفه المتميز استطاع ان يبهر الكثيرين من عمالقة الفن الأصيل وان يقف بشجاعة وقداسة على اعظم مسارح الفن, كما واكب الأغنية العراقية ونجومها على مدى أربعة عقود وكانت له علاقات وطيدة بعمالقة الفن أمثال: الفنان رياض احمد, كاظم الساهر, طالب القرغولي, وغيرهم.
استطاع من خلال وعيه الجمالي ان ينشر القيم الفنية, والتعريف بالمدارس الريفية والمورثات التراثية, فهو يستمد من مقولة الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب “الأغنية العربية تدور في فلك, والعراقية في فلك اخر”, شجاعة الاستمرار في التنقيب عن خرائط الأغنية العراقية الأصيلة, والبحث في جذور مقاماتها وأطوارها الفريدة.
طاهر بركات مارد الخرائط, الفنان العراقي المغترب الذي اثرى الفن العراقي بابتكاراته العظيمة وعزفه المنفرد, يكشف لنا عن عمر الغناء حيث أباح بمكنونات اللغة قائلا “الغناء عمره الأف السنين, حيث كان بدايته عواء ومن ثم وصل إلى ما نحن اليه الان ” الغناء الموبوء”, الكولات” موكدا “ان عدم التعددية في الأغنية العراقية وتشذيبها من أطوارها ومقامتها, جعلتها فاقدة الوانها اللحنية وهويتها, وبهذا أصبحت الأغنية العراقية اليوم متشابهة وطربية لا روح فيها”. ويسترسل طاهر في قوله “ان ارض العراق ولادة بالمواهب المتجددة والطاقات الشابة, وحتما سيعاود أبناءه استرجاع تراثهم الأصيل في الفن والحضارة, ليقدموا أعمالا فنية هادفة ذات روح حرة نابعة من عمق أصالتهم”. داعيا الجهات المعنية ” وزارة الثقافة والأعلام, ونقابة الفنانين”, إلى التوثيق التاريخي للفن العراقي, كما يحفزهم ويدعوهم على أنشاء مدارس متخصصة بالأطوار والمقامات العراقية, وكذلك ضرورة العمل على برنامج خاص تعريفي بالموسيقى العراقية المتنوعة, ومعرفة مدى تأثيرها على المنطقة المحيطة”.
بح صوته الوطني الحر عند تفاقم الإهمال في هذا الجانب, لذلك اقدم طاهر وبخطوات موثوقة وشجاعة, على المضي بتوثيق سبعون حلقة في برنامجه اليوتيوبي “موال ونغم”, حيث طرح وواظب من خلاله على تقديم شرحا مفصلا “نظري, تطبيقي”, عن تاريخ الأغنية العراقية وأطوارها ومقاماتها, ويجد في ذلك رسالة ومسؤولية, ولكونه أنسان وطني وحر تولدت له الرغبة في التوثيق الثقافي والحضاري لفنون بلاده. مبينا بركات “ان العراق البلد الوحيد في المنطقة تختلف فيه الأطوار والمقامات الغنائية من محافظة إلى أخرى, وان هذا التنوع الوفير, جعل الدول والمناطق العربية المحيطة به تتأثر بشكل كبير وطامعة فيه, حيث ان الكثير من قراصنة الأغنية ينسبونها إلى بلدانهم بعدها تراث”.
يغوي ساحر ال بركات وماردها طاهر شبعاد ويستخرجها من قيثارتها, تستلذ بالصمت وهي تبعث صلواتها عبر تموجات خصرها تلك اعظم الصلوات, بعزفه المذهل الساحر وأسلوبه المتفرد الهائل, يبث الروح في غبار أوروك تستقيم قلاعها وتبعث ملوكها الذين يلعنون عصر البربر ويمجدون حكايات البلاد الحزينة. لطاهر مسيرة حافلة بالأبداع والتشويق فهو يحيي الغناء والعزف منذ حقبة زمنية كاملة, كما أعاد توظيف الأطوار والمقامات في عزفه الكماني بصورة متجددة وعصرية, ليس فنان فحسب بل هو موثق فني لتاريخ بلده الحضاري الزاخر بالمعرفة والعلوم وخبير في التراث العراقي, كما يعد انموذجا للمواطن الحر والغيور فعلى الرغم من أقامته في المهجر, ألا ان يشير إلى بلاده بقداسة.

هل هناك مؤسسة تتبنى اختراعاته؟!
يبهرنا الفنان طاهر بركات بإبداعاته ومواهبة الفنية المختلفة, فهو عازف كمان محترف ويحمل صوتا عذبا, وكذلك هو مخترع وخبير في صناعة وتهجين الآلات الموسيقية, بذكائه وحرفنته استطاع ال بركات ان يطور العديد من الآلات العازفة وجعلها مواكبة لتكنولوجيا العصر, حيث أشاد الكثير من الموسيقيين بأعماله, لما تقدم من تطوير مذهل وحداثة في مجال الموسيقى. امتد عطاءه إلى ” الأسطورة”, هي اختراعه الجديد والمتطور, حيث عمل طاهر على تطوير اله ” الكمنجة”, والجوزة”, “والعود”, وتعد هذه الاكتشافات سابقة لعصرها, طاهر الذي يقيم في المهجر كان طاهرا ومخلصا في أداء رسالته اتجاه وطنه وفنه.

قارع أجراس المنافي..
الصوت الكورالي, الإنساني, قبطان النوارس المهاجرة الفنان رعد بركات الغني عن التعريف, قدم أعمال فنية غزيرة, فمنذ ريعان شبابه استهوى الفن وتشعب في دهاليزه, كان مهتم بالموسيقى الغربية, عمل على أثراء الفن العراقي في أغانيه الوطنية, والوجدانية, ومن المنافي ما زال يقرع الأجراس في برنامجه ” نوارس مهاجرة”, حيث يسلط الأضواء على الفنانين المبدعين العراقيين الذين تناثروا كما الأحجار النفيسة في بقاع الكوكب.
رعد الموسيقار الموسيقى والأنسان المهذب, ما زال يهذب غربته, ويناغي عن بعد وطنه الحر, لم ينقض وعده له فهو ينبثق من خلال أغنياته ويجدد ملامحه بالقسوة!

الفردوس العقيمة…
أيها الموت لا تفخر, فصراعك مع الأرواح فعل درامي, حتما ستجهض وجوههم عوالمك الندية, وتحررهم من فضاءات برزخك. ان الرغبة والإبداع سياق فلسفي ينتشيان عن وهج الروح, لذلك كانت روح علي محمد ال بركات تغدق بغزاره إبداعاتها الخلاقة وتتقد في هامات أبناءه, حيث رسخ تجربته الإبداعية في أذهانهم منذ الطفولة, اذ دونو تجاربه, انعزاله, تمرده وعصيانه, وشموخه زهده وأرستقراطيته, تصويريا وشفويا وكانوا انعكاسات لتلك البيئة الفنية الثرية بالأبداع والمحبة, تعددت مواهبهم بين الرسم والغناء والاختراعات والتدوين, وبهذا يفجر ال بركات أبجدية أوروك وينثرونها في المنافي فخرا كونهم أبناء الحضارة.

“لن اخشى عليهم سيعودون”
سرق الموت من ال بركات, كوكبة من النجوم المتوهجة, وحولهم إلى سكون مفاجئ, فضاء هو الموت تتوغل فيها خيالاتهم وأحلامهم الندية, محمد علي محمد ال بركات, حيث كان مهتم في الترجمة, وموغل في اللغة الإنكليزية, حيث كان بصدد الإتمام من تأليف قاموسه الخاص لكن أتلفت أبجديته الحرب ” سلاما أيها الولد الطليق, سلاما ان تنعقد البروق”. أما عراب ال بركات “صالح” الذي كان مولعا ببناء الأجسام حيث أسس نادي السماوة الخاص بهذا المجال واصبح مديرا له أبان ستينيات القرن المنصرم, وكان أيضا لديه شغفا كبيرا في الغناء والرسم. بينما خالد ال بركات يسير بخط متواز من الإبداعات الفنية, حيث توهجت أفكاره في الرسام والغناء أيضا. أما والدتهم فكانت كل جمهورهم. “رحمهم الرب وأسكنهم فسيح فراديسه”.

(Visited 279 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *