الأقليم في الخارطة السياسية بعد حكومة السيد السوداني

الأقليم في الخارطة السياسية بعد حكومة السيد السوداني

د. طالب محمد كريم

يبدو ان التحديات السياسية لا تتوقف أمام الفُرَقَاء السياسيين، فمنذ تشكيل الحكومة العراقية الاولى بعد ٢٠٠٣ أخذت التحديات شكل النمط المعطى لآلة المشكال الهندسية، بمعنى ان التحديات متعددة ومتنوعة. اذ كلما تحاول الدراسات ان تفكك أسس الاشكالية التي توقف عندها مسار العملية السياسية وتطرح الحلول بعدها، سرعان ما تكون أمام مشكلة ثانية ومن نوع آخر.

يعزو البعض الى ان الاسباب تعود الى مرحلة الطفولة للدولة العراقية والتي لا زالت في طور البناء وتقوية مؤسساتها الدستورية وفق مبادئ الدستور والقوانين المشرعة. قد يكون هذا السبب مقبولاً الى حدٍ ما، الا ان استدامة المشكلات واستمرارها قد تُظهر اسبابا اخرى غير تلك التي تصنف ضمن الحدود الطبيعية والمقبولة، لدولة فتية، تنهض من ركام تاريخ الدكتاتورية والعذابات الأليمة، والتي يُراد لها ان تكون النموذج الأمثل في المنطقة من حيث نوع الثقافة الديمقراطية التي تُعزز الى سلوك انساني/وطني/مواطني ووعي ناضج يدرك مفهوم الحرية وقبول التنوع والعيش المشترك.
وعلى اثرِ هذا الاستطلاع يمكن تقسيم التحديات الى نوعين هما:
اولاً: التحديات الخارجية المتمثلة بالدعم السياسي والمشاركة الأمنية والمصالح المشتركة. التي يعتبرها البعض هي مقدمات تقع في صلب مهام الحكومة الاتحادية ووزاراتها السيادية، وبالنتيجة انها من قبيل التحصيل الحاصل. اتفق بشكل ما، مع هذا الرأي لكن يجب ان لا ننسى ان تحقيق معادلة العمل +الفعل والنتيجة مشروط بقيام نظام سياسي قوي متماسك يمتثل فيه اعلى منصب سياسي لبنود الدستور والقوانين التي تعمل عليها الدولة. وهنا لابد ان اشير الى ان اغلب القوانين التي تعمل عليها الدولة هي القوانين نفسها المعمول بها في زمن النظام الدكتاتوري السابق، اذ لم تنجح مجالس النواب في جميع دوراتها بمعالجة هذا الامر الخطير الذي يمثل الهدف الاسمى للنظام الديموقراطي في خلق منطق العدالة الاجتماعية والمساواة واحترام القوانين التي تسنّ على أسس راسخة من ابعاد فلسفة القانون والحرية والعدالة في توزيع الثروات واعطاء الفرص للتعبير عن (أنا) الحضور للمواطن الصالح. وبذلك فقدنا ميزة الفصل بين تاريخين ذا سمتين، سمة الدكتاتورية والعنف ومصادرة الحريات وسمة الديمقراطية وحرية الاختيار والتعبير. وهناك فئة اخرى ترى ان فواعل المواجهة للتحديات الخارجية قد اخفق بشكل كبير على طول فترات متواصلة، ويعزو هذا الاخفاق الى التشتت السياسي الحاصل بين الاحزاب والكتل السياسية التي لم تتفق فيما بينها على تعريفات المقولات الجوهرية والتأسيسية التي تصوّر معنى الدولة والوطن والوطنية والمواطنة والمصالح العليا وغيرها، وبذلك قد ساعدت هذه الاختلافات على مد الهوة واتساع فجوة الشراكة التوافقية التي اسيئ فهمها واستغلت ايديولوجيا في تبرير السلوك السياسي فيما بعد.

ثانيا: التحديات الداخلية المتمثلة بتدني توفير الخدمات والبناء وانشاء المشاريع التنموية التي تعمل على تقليل المشكلات الاجتماعية. وهذا الاخفاق الاخر عمل على اتساع الرقعة الجغرافية للمواطنين الناقمين من سوء الاوضاع وفشل المعالجات وطرح الحلول.

لم تكن هذه المشكلات ممتدة بشكل مطلق في عموم جغرافية العراق، بل امتاز اقليم كردستان بهدوء سياسي نسبي واستقرار اجتماعي ورضى جماهيري، ويعود ذلك الى بواكير الحركة العمرانية والاستثمارية التي برزت في عموم جغرافية اقليم كردستان وبشكل كبير ، مما اظهر الحالة النفسية المستقرة للمواطن الكوردي التي كرّست من قيمته المعنوية والشعور بالرضا، أخرجته على انه الافضل حالاً من بقية مواطني محافظات خارج الاقليم وهذا يعود الى الاستقرار الأمني النسبي والاقتصادي التي شكلت منظومة ثقافية كوردستانية من جانب، وتدني نوع الخدمات التي كانت تقدم في المحافظات خارج الاقليم من جانب آخر ، والتي اصبحت فيما بعد مرآة يرى المواطن العراقي ذاته، سواء اكان عربياً او كوردياً وحياته المعاشة من خلالها.

لم يستثمر الفاعل السياسي الكوردي هذه الاوراق الجيدة والثمينة في بناء توافقات سياسية تختزن رؤية سياسية بعيدة المدى قد تتجاوز ال خمسون عاما على الأقل، حتى تعطي مساحة اكبر للتشكلات الاجتماعية النمطية في ان تتجاوز صورة البطل الرمز السياسي والبطل الموعود ، وقد لمسنا سلبياتها بعد وفاة الرئيس العراقي الاسبق جلال الطالباني الذي تسبب غيابه في تفتيت حزب الاتحاد الوطني الكردستاني واستقالة البعض المهم من المكتب السياسي، حتى عمل البعض منهم على تاسيس احزاب سياسية جديدة دخلت في تنافس حزبهم الأم في الانتخابات اللاحقة والتي استطاعت ان تأخذ معها الشيء الكثير .

على خلاف ذلك ومن زاوية اخرى، بادر حزب الديمقراطي الكوردستاني على استثمار الفراغ السياسي في المناطق التي انحسرت فيها قاعدة التأييد الشعبي للاتحاد الوطني، طامحاً الى اتساع قاعدته الجماهيرية والتي باتت تواجه تشكل سياسي ( الجيل الجديد) يقوده السيد شاسوار عبدالواحد ، مما شكل تحدياً امام المد الشعبي والجماهيري للديمقراطي.

بعد هذه المفارقات السياسية المثيرة، يتبادر امامنا السؤال التالي: لماذا صُبَّ الاهتمام كله على الكورد داخل الاقليم، وتم اهمال الكورد خارج الاقليم ( الفيلية انموذجاً) ؟
نحاول ان نجيب عن هذا السؤال في مقال لاحق لكثرة التعقيدات التي ظهرت بعد تمثل الخطاب السياسي الكوردي الى واقع عملي يختبر النوايا السابقة للاحزاب ويؤشر مدى التوافق والتطابق بين النظرية والعمل .

هذه التحولات الميدانية للساحة السياسية وتفاعلها مع رصد ورقابة المجتمع الدولي والمؤسسات الكفيلة بتطوير الاداء السياسي والتحقق من تجسيدات مفاهيم حقوق الانسان، جعل من الاحزاب الكوردية ان تبحث عن خيارات أخرى في سبيل كسب الاصوات والتأييد الجماهيري الذي يعتمد على تحسين الخدمات، وتسديد الرواتب المتاخرة لفترات، وانعاش القطاع الخاص، الذي بات بديلاً يوازي القطاع العام، والذي اصيب بالشلل التام نتيجة الازمة السياسية التي حصلت بين حكومة الاقليم والحكومة الاتحادية. استطيع القول ان هذه الازمة كانت من ابرز المشكلات التي عقدت العلاقة والتفاهمات بين الحزبين الرئيسيين من جانب والشعب الكوردي من جانب اخر، اذ تشير الاراء الى ارتفاع موشر اشتداد درجة النفور تجاه الاتحاد الوطني، حيث كانت في درجة اعلى مقارنة بالديمقراطي الكوردستاني وهذه لها اسبابها الداخلية التي سنتكلم عنها بتفصيل ادق في مقالاتنا اللاحقة.

يشار الى ان تعميق الازمة واتساع الهوة كان بعد تسلم السيد بافل مقاليد رئاسة المكتب السياسي، وذهبت الى اتجاه ابعد من ذلك بعد موقف السيد لاهور والانسداد السياسي الذي عبّر بشكل جلي عن مستقبل الحزب ومآلاته الرهينة بحالة المزاج السياسي لاسرة الراحل جلال طالباني.

عمل حزب الديمقراطي الكوردستاني الى طرح مبادرتين يمكن ان تشكل خارطة سياسية بديلة عن السابقات ومن ثم تصبح ورقة تنظم العمل السياسي بين الحزبين الكرديين الرئيسيين من جهة وبين حكومة الاقليم وحكومة بغداد من جهة اخرى ، حيث فشلت الاولى ونجحت الثانية وهذه النتيجة بحاجة الى تحليل دقيق يسبقه تفكيك لاطر العلاقات بينهما.
يعني ذلك بتنا لزوماً امام سؤال آخر هو:
ماهي العوامل التي شكلت حائط صد امام مرور العملية السياسية وتجاوز الماضي؟ هل هي عوامل داخلية أم خارجية؟
يبدو ان نجاح التوافق السياسي الذي حصل بين الاقليم وبغداد، يعود الى الارادة السياسية التي شعرت بخطورة الازمة ( ٢٠١٩) والتي شطرت العملية السياسية الى مؤيد ومعارض، وبات عملها يصب الى تسوية المشكلات وتصفير الازمات، هذه الارادة التي توافقت مع ارادة دول المنطقة التي نجحت في عودة العلاقات الايرانية السعودية والايرانية الخليجية ومن ثم موضوعة سوريا واليمن. يعني لنا ذلك ان المنطقة برمتها تتجه نحو صناعة مشروع سلام واحياء الاتفاقات البينية فيما يخص الاقتصاد والطاقة والاستثمار.
رحبت حكومة الاقليم بمبادرة حكومة السيد السوداني واستبشرت خيرا واستقرارا قابلا للديمومة والتحكيم الى الدستور العراقي كما جاء ذلك ولأكثر من مرة على لسان السيد نجيرفان برزاني وفي اكثر من مناسبة، أكد فيها احترام الدستور والقوانين.هذا النجاح النسبي الذي نتكلم عنه، يُراقب بحذر من الاصدقاء الذين يمتلكون مصالح سياسية واقتصادية واستثمارية في الاقليم وهو قيد النظر والمراقبة.

اما فيما يخص المبادرة الاولى والتي تهم الحزبين الكرديين والتي تعمل على احياء العلاقة واستقرار الاقليم، تنتهي الى تشجيع الاسثمار الداخلي ولا سيما الخارجي في قطاعات متعددة يمكن ان تنوِّع من مصادر الاقليم الاقتصادية، اذ انها تحتاج ( تاريخ العلاقة ) الى مراجعة وتقييم والعمل بشفافية مدعومة بالمعلومات والوثائق والارقام تُسند الاطراف التي تحاور حكومة بغداد وتفعيل الاتفاق السياسي بين الطرفين، الا اننا يجب ان لا نبالغ في درجة التفاؤل ما لم تشرع المادة ١١١ والمادة ١١٢ من الدستور العراقي وتحسم خيارات العمل الفني والقانوني والمالي. اذ ان تشريع القوانين فيما يخص ملف النفط والغاز سيلقي بظلاله على اعادة العلاقة بين الحزبين الكرديين، اذ ستُفنّد الادعاءات التي تزعم تحكّم وسيطرة حزب الديمقراطي بواردات الميزانية وكمية النفط المستخرجة من حقول اقليم كردستان. وان تشفع هذه الخطوات بعمل جلسة حوار يؤَسَس على الصراحة والشفافية ومعرفة موقع كل منهما في مستقبل الإقليم، وبإشراف الامم المتحدة وحكومة بغداد.

(Visited 14 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *