قراءة في رواية « ليلة الحلم الإيطالي »

قراءة في رواية « ليلة الحلم الإيطالي »

يتوسل مؤلف رواية « ليلة الحلم الإيطالي » الأكاديمي
العراقي )ماهر مجيد إبراهيم( المتخصص بعلم السرد
السينمائي المعاصر باختاق سارد كان ذاته الشخصية
المحورية للرواية ، أعاد لنا صوغ تركيب بنيته الحكائية
مستدلا بتكنيك الكتابة الإبداعية للسينما مستوعباً
أدبية السيناريو السينمائي الحديث من جهة ، وبنائية
النسق السير ذاتي من جهة أخرى ، مراهناً على لغة
سردية قادرة بعمق على تشكيل أفعال و ردود أفعال
شخوص الرواية بدلا من الإخبار عنها ، وهذا ما جعلنا
إزاء شخصيات مركبة بعمق على مستويين ) المظهر
– الجوهر ( ليجبرنا السارد ) نبيل ( بيقظته الأبدية ،
وثقافته العميقة ، إذ قدم لنا المؤلف شخصية نبيل
بوصفه أنموذج للمثقف العضوي العارف بتأريخ باده
، و المنتمي بحق لهويته كعراقي الذي أفصح عن
إيجابيات الفرد العراقي المعاصر للحروب و الأزمات و
الخسارات التي لا تنتهي في مجتمعه ، و حسه العالِ
بالمراقبة على مدار السرد في تصفح دواخله ، و دواخل
كل من يحيطه بتلقائية لايجيد صوغها إلا المتبحر
بسرية السرد المعاصر الذي يراهن على سارد يحكم
قبضته على تركيب بنيته الدرامية ، و يتحكم بتشكيلها
وفقاً لاستراتيج تركيب زمني يسعى لأن يكون أكثر
إقناعاً على المستوى الفكري و الجمالي من استراتيجية
السارد العليم بكل شيء في بنائية الرواية الكلاسيكية
، إذ تتماهى أنا السارد بأنا الشخصية المحورية لا بأنا
المؤلف الذي يعلن السرد الحديث عن موته لصالح
سارد وسيط مشارك بالحدث بينه وبين القارئ.
كما يشيد السارد )نبيل( معمار فضائه الروائي
، و المتمثل بمنطقة )الكسرة( الشعبية والمناطق
الأرستقراطية المحيطة بها. مقدماً وثيقة روحية عميقة
عن المكان ، وتحولاته التاريخية ، و إيقاعه الشعبي ،
وجوه النفسي العام كمسرح لأحداث روايته ، التي أراها
نموذجا للنص الروائي المركب العصي على التصنيف
الأنواعي يستوعب بعين المراقب الدقيق ، و المنقب
العميق ما حاق بالمجتمع العراقي من عنف يصل لحد
التمثيل الجسدي ، و خذلان سياسي أوصل المجتمع إلى
فوضى عصية على الإصاح ، و إرباك نفسي وصل إلى
حد المرض ، وتخلخل حاد لكل منظومة القيم أوصل
أفراده إلى العدمية ، وبهذا يعلن مؤلف النص عن
موجهاته الثقافية في مسائلة الواقع ، و الرهان على
التمثيل الجمالي للسرد في استنطاق خباياه ، و رصد
المتغيرات السسيوثقافية التي كان للعسف السياسي
ظلاله الواضحة على تهشيم منظومة القيم تلك
. وهذا ما يجعل من رواية « ليلة الحلم الإيطالي «
بوحاً صارخاً استطاع أن يشكل قصة محورية تكتسب
تعقيدها من تعدد المحاور الفرعية التي أسهمت في
تشييد تركيبتها الدرامية بهدف تعرية ، و تفكيك النسق
الثقافي الذي حاول التأريخ السياسي للباد بأقصى
مدياته تشويه الهوية العراقية ، وتظليلها مراهناً على
تهشيم وحدتها الإنسانية عبر خطاب الجهاز الإعلامي
للسلطات التي توالت على حكم الباد ، وتشبثها
بهويات فرعية لا تؤدي بالفرد العراقي إلا للاقتتال
الطائفي ، و الصراع الطبقي ، و التهجير القسري للأقليات
مما جعل الباد فضاء طارد الكل يحلم بالانعتاق منه
، و كأن الخاص الإنساني في مكان آخر . وهذا ما
يجعل من البناء الفكري للشخصيات التي جعلنا السارد
) نبيل ( نطل عليها من خال وعيه تشترك بثيمة
أخلاقية تتشبث بهويتها الأم ) العراق ( التي تتسيد في
منظورها الإنساني.
ينفتح السرد الروائي على شخصية )نبيل( لتقدم ذاتها
وهي في منطقة المابين )الوعي – اللاوعي( لتعيد
إنتاج ماحاق بها وهي في طوارئ إحدى المستشفيات
العراقية بعد تعرضها لأضرار جسدية في إحدى الأعمال
الإرهابية التي اجتاحت المدينة بغداد ، إذ يقص علينا
ما ظل موشوماً في ذاكرته من مشهد انفجار سيارة
مفخخة أطاحت بالكثير ، و نجى منها بأعجوبة كبيرة ،
لو نتأمل سردية هذا المشهد سنتلمس بعمق ضواغط
المرجعيات الجمالية للمؤلف ، الذي يشكل لنا تركيب
المشهد مستعيناً بلغته السردية بناء مونتاجي جعل
من عين السارد ) نبيل ( الكاميرا التي ترصد بتحولاتها
المونتاجية الخراب الإنساني الذي خلفه الانفجار لينقل
لنا صورة على مستوى عالِ من البلاغة السمعبصرية
مفجراً ممكنات اللغة في التعبير عن الحواس الدنيا )
اللمس ، و الشم ، و الذوق ( تجعلنا في قلب الحدث
الذي ترشح بالكامل من خلال عين السارد. ثم تتكشف
شخصية السارد ) نبيل ( بالتدريج بتلقائية محسوبة
بدقة وعناية فائقة ، حتى تكتمل صورتها الرمزية ، و
الإنسانية في آخر مقطع من الرواية إذ يعيش نبيل
وحيداً بشقة متواضعة في منطقة الكسرة يكبت حزناً
قاتماً وعميق بالفقد . فقد والدته التي أنفق عليها كل
ما يملك ، و أفولها بعد معاناة مع المرض، وفقد بيت
الأسرة بعد صراع حاد مع أخوته الورثة لينتهي به
الحال وحيداً مشغول أبداً بذاته ، و متأماً ومراقباً لما
يحيط به من نماذج بشرية اكتسبت قيمة رمزية في
سياق تمظهرها البنائي في السرد . فالتشبث بأمه ما
هو إلا صدى عميق لتشبثه الأبدي في هويته الأصل
)العراق( و تشظي بيت الأسرة لم ولن يبعده عن
تلك الهوية عكس أخوه الذي غادر الباد قبل مرض
والدته أصاً .
يسكن نبيل بجوار عائلة مسالمة أسرة )أبو أدريس(
اليهودي العراقي الذي تنازل عن هويته الدينية من
أجل الاقتران بامرأة مسلمة أحبها كما لم يحب امرأة
من قبل. أنجب منها أدريس الشاب الذي غادر الباد
لعدم انسجامه مع القلق الدائم الذي تسعى إدارة
الدولة السياسية أن تجعلنا ندور في دوامته، و سارة
الشابة التي تفقد زوجها بالحرب العبثية مما يجعلها
تعود لأسرتها، يصور لنا السارد عمق العلاقة الإنسانية
بينه وبين أسرة أبو أدريس لتنهار أمامهم كل
الاختلافات الدينية التي أطاح بها أبو أدريس في وقت
مبكر من حياته كعراقي يهودي ، و المذهبية لنكون
إزاء آصرة تمحو تماماً الشرخ الاجتماعي الذي حدث في
عراق ما بعد 2003 م ، تضطرب صحة أبو إدريس و
يضطرون للهجرة إلى ألمانيا الباد التي احتوت إدريس
، و تعاملت معه بحنو كبير ، تميل سارة بعاطفة جياشة
تجاه نبيل ، مما يجعل أم إدريس تطلب يده لابنتها ،
إلا إن نبيل مؤمن إيمان عميق بأن مصير هذه العاطفة
الذبول بعد العيش في فضاء أوربي بامتياز تجد سارة
فيه حريتها المقموعة في العراق ، خافياً عنهم حبه
العميق لزميلته في العمل ) انسجام ( المرأة المسيحية
التي تعمل ضمن الطاقم الإداري للمتحف التابع لوزارة
الثقافة حيث يعمل فيه نبيل بوصفه فناناً )نحات( لم
يشكل الاختاف الديني بين نبيل وانسجام أي عقبة
أمام حبهما ، و هنا تتجلى أمامنا قدرة الروائي في
صوغ أسماء الشخصيات برؤية رمزية تسعى لإذابة
الحدود التي تشكلها الهويات الفرعية ، إلا إن انسجام
تكتشف إصابتها بورم خبيث يقتلعها خارج الباد
بعيداً عن نبيل ، لغرض العاج ، ثم تعود له في
نهاية الرواية بعد أن تتطهر من أدران المرض مرتمية
بأحضان الباد و نبيلها مرة أخرى.
في فترة غياب انسجام يتعرف نبيل على )لقى( الفتاة
الأرستقراطية المقيمة في إيطاليا ، تزور المتحف برفقة
وفد إيطالي ، فتنشأ بينهم علاقة صداقة عميقة إنسانياً
ينفتحان من خلالها على عوالم بعض ، إذ تعود لقى
لأسرة كان لها الدور السياسي و الاقتصادي البارز في
الحقبة الملكية ، تهاجر خارج الباد ، وتختار إيطاليا
منفى اختياري بعد انهيار النظام الملكي ، وتعرض
والدها للسؤال الدائم من قبل أمن المركزية القومية
الجديدة للباد ، وتبقى صلتهم بالعراق ، إذ تمتلك
لقى منزل فخم في منطقة الوزيرية أحد أحياء بغداد
الراقية القريبة من الكسرة ، و التي تشكل معها ثنائية
متضادة تلفت الانتباه لذاتها اجتماعياً ، و ثقافياً ، لم
تستشعر لقى أي مفارقة طبقية بينها وبين نبيل إذ
يجمعهما الانغمار بجمالية الفن التشكيلي ، و التأمل
بتحولاته ، يجمعهما عبق التأريخ الماثل في الإدارة
الفنية لمنزل لقى .
شخصية نبيل، والشخصيات التي يقترن ، ويفصح
عن تشكيلها نفسياً ، وفكرياً تتجلى من خال حبكة
بوليسية أبطالها ) حقي ( الملاكم المتاجر بالمخدرات ،
و رزوقي بائع الشاي أمام مطعم أبو أحمد الذي اعتاد
نبيل الفطور فيه صباح كل يوم ، إذ يشهد رزوقي على
اختطاف حقي ورجاله لفتاة ، ومحاولة اغتصابها في
مقبرة الأنكليز المقابلة لكلية الفنون الجميلة ، أثناء بحثه
عن عاج لإحدى النساء المجاورات لمنزله بعد نقلها
إلى مستشفى، وسعيه لشراء عاج لها من صيدلية
خافرة تقع على طريق تلك المقبرة ، ليكون رزوقي
في لحظة صراع بين عاطفتين متناقضتين تودي
بحياته في النهاية بطريقة بشعة لا يجيد ممارستها إلا
حقي المشهود له بالإمعان بالعنف تجاه كل من يهدد
وجوده ، أو يقف حائاً أمام رغبة من رغباته ، يصرخ
رزوقي بالجمع الذي ينوي إقامة حفل الاغتصاب أمام
شواهد قبور الموتى الأنكليز مشتتاً شملهم، ومربكاً
فعلهم المشين ، إن قيمة المكان « مقبرة الأنكليز «
بالحدث الذي يجري فيه بوصفه أثر كولونيالي يحتل
مركز العاصمة من جهة ، و تحيط به منازل عشوائية
يطبق حقي سيطرته على سكانها بوصفهم مهملين
من قبل السلطة الإدارية للباد من جهة أخرى ، يبوح
رزوقي بهذا السر الخطير لأحد بائعي الطيور في حفلة
صراع الديكة في منطقة العطيفية ، بعدها يشعر بندم
كبير على لحظة البوح هذه ، فيقرر كتابة كل ماشاهده،
وسمعه في دفتر ، وتسليمه لنبيل كأمانة يستكشفها
نبيل ، ويفض بكارتها كمدونة مهملة في حياة رزوقي
اكتسبت قيمتها بعد التمثيل بجسده ، و تعليق جثمانه
على مرآى من الناس مما يثير رعباً في المنطقة ، هنا
يجعلنا المؤلف أمام صوت سردي يزيح سلطة السارد
)نبيل( الحاكم، والمتحكم بسرد الرواية، لتكون
المخطوطة المكتوبة بلغة شعبية تمثل ثقافة رزوقي
بائع الشاي ، وبهذا تتعدد الأصوات السردية داخل بنية
السرد مرتين الأولى من خال مخطوطة رزوقي ، و
الثانية من خلال الكم الهائل من مشاهد الحوار الجدلية
بين نبيل، و بين الشخصيات الثانوية التي نطل عليها
) مبنى ومعنى ( من خلاله ، إذ ينقل لنا نبيل بحياد
كبير الحوارات الجدلية التي خاضها مع )أمجد – انسجام
– أبو أحمد – لقى( وميزة هذه الحوارات التلقائية في
توظيفها للكشف عن التكوين الفكري لتلك الشخصيات
، وبما إن نبيل يقدم ذاته كسارد كان يوقف الحوارات
التي تنثال أمامنا معلقاً عليها مبدياً نقده أو اتفاقه
معها ، وهذا ما يجعلنا إزاء مشاهد مركبة من ثاث
منظورات منظوره الفكري كشخصية داخل بنية
المشهد ، و منظور الشخصية المقابلة له ، و منظوره
كسارد استدعى تلك الحوارات الجدلية بين ) الحياة /
الموت ، الماضي / الحاضر ، الإيمان / الإلحاد ، الجمال
/ القبح ، ثقافة الداخل / ثقافة الخارج ( ، وكأننا أمام
مشهد سينمائي نهض المونتاج بتقطيع الحوار بين
الشخصيات للتأكيد على كل جملة تقولها بحجم وزاوية
معينة ، مصحوب بصوت سارد من خارج الكادر يعلق
على تلك الحوارات هذا التكنيك إن دل على شيء فإنه
يدل على ضواغط تكنيك السرد السينمائي في تشكيل
بنية المشهد الروائي.
يفصح نبيل عن السر الذي كشفته مخطوطة رزوقي،
مما يجعل نبيل و أبو أحمد يعيشان في لحظة صراع
نفسي، و اخلاقي يحثهما على الأقتصاص من حقي
القاتل، ومن الواشي فيدفعا بذلك ضريبة تودي
بمقتل أبو أحمد، و تهديد حياة نبيل الذي يجد منزل
لقى ماذاً إنسانياً حانياً عليه ، وفي النهاية يقتل حقي
في مواجهة مع رجال الأمن ، و يعتقل بعض رجاله ،
تعود انسجام لنبيل متطهرة من أدران المرض ، أما
لقى فتكون بمثابة لقية لا تقدر بثمن بالنسبة لنبيل ،
إذ تتبرع له بكل مقتنيات المنزل ، لإدراكها بأنه الرجل
الوحيد الذي يعي قيمتها التاريخية ، ولا يمكن أن
يفرط بها بأي مبلغ مادي تحت أي ضغط اقتصادي
يمر به ، و تعود لإيطاليا بعد انهاء أي متعلق لها
داخل العراق ، وبهذا تتفجر الدلالة الكبرى للرواية
بوصفها ليلة حالمة تسعى للم شتات نبيل السارد
الحالم بحياة أكثر أمناً، وحباً ، و أكثر تشبثاً بالحياة ، و
أكثر نأياً عن كل ما هو مادي .

(Visited 1 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *