حسين فوزي
بعض الأحداث بقيت في ذاكرتي، الأولى قضية سيارات الموسكوفيتش التي اشترتها وزارة التجارة من الاتحاد السوفيتي، وحين وصلت السيارات عبر ميناء البصرة، شخصت الوزارة أن السيارة لم تكن بكامل المواصفات المتعاقد عليها، كان ينقصها جهاز راديو، فاحتجت الوزارة العراقية بشدة، واثر هذا الاحتجاج تم تعويض العراق بعدد مناسب من السيارات تعويضاً عن عدم تطابق المواصفات. الثاني عندما قرر رئيس الوزراء الزعيم الركن عبد الكريم قاسم بناء مدينة الثورة، وبعد بدء الوزارة المعنية بالمشروع، زار المرحوم قاسم المشروع وهو قيد الإنشاء، وقد أغاظه كثيراً أن النوافذ لم تكن مناسبة لمعايير التهوية والمستلزمات الصحية الأخرى، كما أن مساحة الغرف لم تكن بالمستوى الذي يأخذ الوضع الاجتماعي للعائلة العراقية. الثالث هو مسألة قرص الخبز الذي كان صاحب المخبز قد قلل من وزنه فيما كبر صورة الزعيم قاسم، فكانت ملاحظة قاسم “لو انك تصغر صورتي وتكبر قرص الخبز أفضل لك عند الله وتكسب رضي الناس، أما تكبير صورتي وتصغير قرص الخبز فيجلب المسبة لي وغضب الله عليك.” هذه أمثلة ساذجة عن المواصفات المطلوبة لما يقدم للمواطن العراقي سواء من السلع المستوردة أو المنتجة محلياً، مثل قرص الخبز وكيف يتعامل معه مالك المخبز… وحين نتطلع إلى من حولنا في العالم نرى على سبيل المثال أن حافلات نقل الركاب في بلدان مثل الجارتين تركيا وإيران، كذلك الكويت، مكيفة صيفاً ومدفأة شتاء، بل وهي مزودة بإضافات تميل معها السيارة لتسهيل صعود عربات ذوي الاحتياجات الخاصة، بجانب وجود مقترب عند بوابة نزول الركاب ينسحب لتمكين عجلات ذوي الاحتياجات الخاصة من الصعود بيسر. طبعاً هذا يشمل إيران قبل الحصار الأميركي. وتوزع في بلدان الجوار، ممن نحن نتوهم أننا اغني منها، عجلات خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، مزودة بمحرك كهربائي، والعديد من الإضافات المفيدة، عندما نقارنها بما يوزع على مواطنينا ممن يعانون من نفس الاحتياجات، تبدو عرباتنا “تافهة” …نعم تافهة بمعنى الكلمة. وهذا ينطبق على وسائلنا في تجبير الكسور في مستشفياتنا التابعة لوزارة الصحة. أما الشاي الذي تتضمنه الحصة التموينية، فهو لم يعد شاي سيلان بورقته الطويلة، الذي كنا نعرفه منذ عهد الهاشميين والجمهوريين الأوائل، بل هو اقرب ما يكون إلى غبار…وأما الرز (أو التمن (Ten men) فهو حبوب مهشمة وأحيانا عفنة. وحتى السكر فأن درجة تركيزه مدعاة للتساؤل!؟ وفي إطار الخدمات، فالمواطن حين يتوجه لمراجعة أية دائرة رسمية، فأنه في أحسن الأحيان يجد وجهاً عبوساً، إن لم يكن الموظف أو الموظفة مشغول بمكالمة هاتفية أو حديث مع زميل له. وهذا نوع أخر من تفاهة سلعة أخرى هي الخدمات. أما مستشفياتنا فهي متروكة في أغلب الأحيان للمتدربين من أطباء ما قبل التخرج، حتى في العيادات الاستشارية، فيما يستنكف كبار الأطباء الاستشاريين من معالجة المواطنين، واذهانهم مشغولة بمشروعاتهم الخاصة، سواء أكانت عيادات عليها إقبال شديد، أو مستشفيات كبيرة تدر المليارات. إن الدولة المدنية الديمقراطية هي دولة المواطن، من حيث ما يقدم له من سلع وخدمات باحترام وضمان حرية تعبيره في تقييم كل مفاصل الدولة، لكننا في دولة تراكم فيها الفساد إلى حد أن المواطن في مراجعته لمؤسسات الدولة موضع استهانة صغارالموظفين في قلة الاحترام وتدني مستوى الخدمات…ومرد هذا ليس فقط تدني وعي الموظف فيما هو واجبه، وأن المواطن هو سيده، وكل موظف عام هو خادم للمواطنين وليس متسيداً عليهم، سوى بطيب معاملته وحسن أدائه لواجبه، بل غياب مبدأ الثواب والعقاب من جهة، ولجوء كثر من المؤسسات إلى ملاحقة وسائل الإعلام والمنظمات ممن تكشف عن عيوب الحالات في التعامل، سواء من خلال اللجوء إلى القضاء أو القسر، أو قطع الإعلانات وغلق أبواب المؤسسات المعنية بوجه وسائل الإعلام التي تكشف العيوب. أما إذا تجرأ مواطن على استنكار الاستخفاف به وسوء الأداء في الدوائر، فالتهمة جاهزة إهانة موظف عام أثناء أداء واجبه، وشهود الزور من الموظفين وضعيفي النفوس جاهزون. إن وزارة التخطيط والهيئة المعنية بالقياس والمواصفات النوعية قد حُد من دورهما، والمطلوب تعزيز هذا الدور، علماً أن مؤسسة عريقة أخرى هي دائرة الرقابة المالية، كانت “تدس” انفها عن جدارة في كشف مخالفة المواصفات والنوعية وسوء الأداء أيضا. ترى متى نستعيد التمسك بمواصفات تليق بالإنسان عموماً، ومواطن بلد نفطي ينتج قرابة 4 ملايين برميل نفط يومياً، ومدخراته من العملات الصعبة بلغت رقماً غير معهود سابقاً، لكن يبدو أن المواطن والوطن العراقيين يعطيان الكثير من الخير ولكن حصتهما بعض الأشواك.. وحين يكون توجه المواطن إلى دائرة ما يشكل عبئاً عليه وليس منفذاً لخدمته، فأن الحديث عن الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان يصبح مجرد شعارات فارغة، خصوصاً عندما تكون السلع التي تقدم له هي من مخلفات عصر ما قبل التقنيات الحديثة، والمواد الغذائية مرتفعة الأسعار متدنية النوعية والمواصفات…أما الخدمات وكأنها هبة من السيد إلى العبد… عزيزي أ. الخطيب المحترم، عسى يجد هذا الموضوع مجالة للنشر عندك..المخلص حسين فوزي