عادل الشرقي
قصةٌ قصيرةٌ
هكذا ومنذ صباه ، كانَ يبحثُ عن المرأة الأنثى ، فلم يرَ لها شكلاً بين كُلِّ من رآهنَّ من النساء ، ولهذا فقد كانَ يصفها بالمرأة المجهولة ، وغير مرةٍ كانَ يُردِّدُ مع نفسهِ قائلاً : رُبَّما لم تولد بعد ، أو ربَّما وُلدتْ واختلطت ملامحُ كُلِّ نساء الأرض فيها ، فما عُدتُ أعرفها ، وما أدراني ، فربَّما تكونُ قد سافرت إلى العالمٍ اللاّمرئيِّ ، فغيبتها عني الأساطير ، غير أنَّ ظنونهُ كانت تُخطيءُ أحياناً ، فقد رآها ذاتَ مرةٍ وهي تُطلُّ عليهِ من نافذةٍ في الحُلمِ فحاول الصُّعود إليها عبر سلالمِ المعنى ، لكن سرعانَ ما أسقطهُ الحيِّزِ الكامنُ في الهواء ، فتدلى من أعلى حُلُمهِ ، وسقطُ في الفراغ ، وذاتَ غفوةٍ بزغَ وجهُها الطفوليُّ من سطورِ روايةٍ لكاتبٍ مغمورٍ كانَ يقرأها في ساعاتِ الفجر ، فأمسك بأثوابها اللاّزوردية الفضفاضة ، فانزلقت من بين أصابعه ، ولم يعد يراها حتى بين ثنايا سطور تلك الرواية ، ولكم كان يسألُ نفسهُ في لحظاتِ الصحو وآناء الليل والنهار ، متى سأجدُ تلك المخلوقةُ يا ربي ؟
كانَ يسمعُ صوتها مبثوثاً في الأغاني ، وكان يسمعُهُ وهو يتصاعدُ من ثقوبِ قصبِ الناي ، ولطالما جاء صوتها هامساً من خلال خفقاتِ أجنحة فراشةٍ ملوَّنة هبطت فوقَ زهرٍةِ ياسمين ، فحاول اللحاق بها ، والطيران معها علها ستبوحُ له بمكانِ اختفاء أنثاه .
قال لهُ صاحبُهُ ذاتَ يوم : هل ما تزالُ تبحثُ عنها ، فأجابهُ : وهل وجدتها أنت ؟ فغادرهُ صاحبُهُ مُبتسماً دونَ أن ينبسَّ ببنت شفة .
ثم أنه كان يقضي ساعاتٍ طويلة يُحاولُ فيها فهم ما يراه وما يظنُّهُ سيُحققُ لهُ ما يسعى إليهِ ، لكنهُ يشعرُ بعد حينٍ أنهُ يبحثُ في اللاّ جدوى ، فكلُّ شيءٍ بالنسبة لهُ كان مجهولاً ، ولهذا فقد صار يرى مُتعةً بالغةً في بحثهِ في عالمِ المجهول ، فما يراهُ مرئيّا ، هو أبعدُ عن الحقيقة ، لأن الحقيقة تكمن في اللاّ مرئي ، ولا يستطيعُ بلوغ الحقيقة إلا الخيال ، فهي تختبيءٌ هناك بين ثنايا المجهول ، ولا تستطيعُ انتزاعها من غياهب المجهول إلاّ الرُّؤى ، بوصفها تمتلكُ الأحاسيسَ الباطنية القادرة على اختراق ما هو غير مرئيِّ ، وقد يكونُ جزءاً من المستحيل ، ولهذا فإنَّ المرأة الأنثى المجهولة في معناها المجازي عند بطلِ هذهِ القصةِ ، هي تلك المرأة المُنزَّهةُ عن السقوط في متاهاتِ الواقعِ المرير ، وهي التي تنآى بنفسها عن الاستغراق في التفاصيل المبثوثة بين حنايا غيرها من النساء .
أينَ تكمنُ زاويةُ الرُّؤيا وكيف يستطيعُ الاستدلالَ هذا الكائنُ الذي يزعمُ أن المرأة التي يحلمُ في أن يعثر عليها ذات يوم إذن ؟ ولماذا يُريدها مختلفةً تماما عن غيرها من النساء ، ثم هل أنهُ وحدهُ من يحملُ مثل هذهِ الرغبة ، أم أن هناك الكثير ممن يشبهونه ، وإذا كان هناك الكثير ممن يحملون هذه الأمنيات ، فلماذا لا تحملُ المرأة مثل هذا الحلم ، فتبحثُ عن الرجل المجهول الذي يسمو بكل ما فيه من صفات عن غيرهِ من الرجال ؟ .