د.خالد شوكات/كاتب تونسي
عدت بالأمس إلى أرض الوطن من بغداد بعد مشاركتي في ملتقى الرافدين الدولي الرابع للحوار، الذي انتظم بين 26 و29 من شهر سبتمبر 2022، وكان مجرد تنظيم هذا الملتقى تحدّيا كبيرا في حد ذاته، للأزمة السياسية المتفاقمة منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل سنة، ولم تفلح الأطراف السياسية بعدها في تجديد مؤسسات الحكم، رغم تعدد المحاولات، وكذلك للظروف الأمنية شديدة الحساسية، فقد شهدت أيام الملتقى نفسها أحداثا خطيرة من قبيل سقوط قذائف “هاون” على مباني البرلمان، وتصاعد حدة الاشتباكات بين متظاهري “ثورة تشرين” والقوات الأمنية التي تحاول سد منافذ المنطقة الخضراء في وجههم، مما جعل التنقّل داخل العاصمة العراقية والخروج من الفندقين اللذين اختيرا لاقامة ضيوف الملتقى عملية شاقة ومرهقة.
هذه الظروف الاستثنائية والصعبة، لم تحل دون تنفيذ برنامج الملتقى المرسوم من قبل منظميه بحذافيره تقريبا، فقد انعقدت جميع الجلسات واللقاءات الخاصة في توقيتها، وعلى مدار اليوم من التاسعة صباحا إلى التاسعة مساء. لقد شارك مئات الضيوف الأجانب جاءوا من 33 دولة، فضلا عن مئات آخرين من داخل العراق، مثّلوا جميع التيارات السياسية والفكرية وكل المكونات الدينية والعشائرية، حيث عولجت أهم قضايا العراق والمنطقة العربية والعالم، في سياق ديمقراطي تعددي، جمع بين الرصانة العلمية ومواكبة الأحداث والوقائع المستجدة، ولم تخلو أجواء الملتقى من وقوع مفاجآت من النوع الثقيل، كاختيار رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي مثلا اعلان استقالته من منصبه (وقد جرى رفضها بالتصويت لاحقا خلال جلسة برلمانية) خلال استضافته في لقاء خاص، وهو ما يعكس الأهمية التي أصبح الملتقى يحظى بها في المشهد السياسي العراقي.
لقد حضر زعماء السياسة العراقية على أعلى مستوى في أشغال الملتقى، فإلى جانب الحلبوسي، تحدّث السيد عمار الحكيم والأمين العام لمجلس الوزراء والقائد العسكري المكلف بمكافحة الارهاب ووزير الخارجية فؤاد حسين..لقد تحدث قادة العرب والكرد والتركمان، وزعماء الشيعة والسنة، ورائدات العمل النسوي ورواد الحركة الشبابية وشيوخ العشائر..كما تحدّث أهل الحكم وأهل المعارضة..وكما جاء ممثلون عن التيار التنسيقي حضر ممثلون عن التيار الصدري..وكان أصدقاء الأمريكان وأصدقاء ايران في اشتباك حواري حضاري لم يخل من حدّة في بعض الاحيان، لكن دون خروج عن حدود النقاش السلمي .
إلى جانب قضايا العراق الساخنة، نوقشت في جلسات وحوارات خاصة مع رموز فكرية وسياسية وعلمية، قضايا الحرب الروسية الاوكرانية وافغانستان وطريق الحرير الصيني والحرب على الارهاب واضطراب سلاسل التزويد وصراعات النفط والغاز وتحديات الانتقال الديمقراطي والحروب الاهلية وغيرها، في ربط موفق بين الابعاد الوطنية والاقليمية والدولية، وكان واضحا أن مركز الرافدين للحوار (مقره النجف الاشرف) المنظم للملتقى، يلقى احتراما لدى جل الاطراف الفاعلة في محيط العراق القريب والبعيد على السواء، وهي اطراف متصارعة ومتناقضة المصالح كما هو معروف، تماما كما يجد تقديرا لدوره وثقة لدى جل المكونات العراقية، وهو أمر نادر الحصول في منطقتنا العربية، التي ما تزال مراكز التفكير فيها محدودة التأثير في رسم السياسات العامة واستشراف المستقبل.
على صعيد المشاركة التونسية، كان لقاء المفكر والكاتب عبد المجيد الشرفي حول اطروحاته النقدية للفكر الاسلامي ومعالجته لقضايا التراث العربي، لقاء ناجحا ومثيرا للجدل، وقد شكّل جزء من الحيز الأكثر عمقا للملتقى الذي خصصت جل جلساته للقضايا السياسية والدولية المستجدة، كما تحدّث كاتب هذه الأسطر في جلسة خصصت لكل من تونس وليبيا في رهانات قواهما الداخلية وتدخلات الاطراف الدولية، ولا شك ان القضايا المغاربية ستنال اهتماما أكبر في دورات الملتقى القادمة، اذ ما تزال علاقة المشرق بالمغرب العربيين ضعيفة دون مستوى ما تستحقه من عناية.
وفي الختام، لا بد من توجيه الشكر لقادة مركز الرافدين للحوار، وطاقمه الاداري والعلمي، وعلى رأسهم المحترم زيد الطالقاني رئيس مجلس ادارته الشاب، وتهنئتهم بنجاح عمل يؤشر في رأيي إلى اتجاه مستقبلي واعد لما يجب أن تكون عليه الصلة بين مراكز التفكير ومراكز القرار، دون أن ننسى توجيه التحية للعراق دولة وشعبا على كرم الضيافة وسعة الصدر والصبر والاصرار على المضي في طريق الاستقلال والديمقراطية والتنمية رغم تعقيدات الداخل والخارج.