15/09/2020
عبد الحميد الصائح
مشكلةُ العراقي أنّه لايريد الإعترافَ بأنّ وطنه عبارةٌ عن دولة حديثة العهد لم يتجاوز عمرُها المئة عام ، أسِست؛حالُها حالُ دول أخرى بناء على خرائط خرائط فرضها المنتصرون على انقاض حربٍ دامت كم سنة.
هنالك شعورٌ شعبي اسطوري وتنافسٌ حتى بين المحافظات والأقضية كذلك ، كل منطقة وحدها تبحث عن جذورها الضاربة في الحضارة والتأسيس البعيد ، فترى هذه تحتفل بمرور مئتي عام على تأسيسها وتلك تحتفل بأكثر من ذلك ، والعقل الجمعي لايرضى بأقل من آلاف السنين.
تاريخ مليء بالأحلام والأساطير والممالك والأعياد والموروث المتنوع ، قبل أن تفترسَهُ القبائلية والعقائديةُ، وتتحولَ أرضُه التي تنزّ بالخير، الى ساحات لجيوش قادمة من الغرب والشرق وهي تحمل ذرائعَها على شكل أعلامٍ تلوّح بالقتال، لتمتهنَ شعبَه وتُجري دماءه على أرضِه، فيتأسّس تاريخٌ للبلادِ مع كلِ حربٍ وغزوٍ ،تواريخ مشوّهة تُمجدّ دولاً أقامَها الغرباء على أرض الرافدين،غرباء هجّروا أهلَها الأصليين،وابتنوا ممالكَهم من جماجمِهم ، ليشطبَ تاريخُ هذه الأرض بدماء أهلها، ويَكتُبَ كلُ غريبٍ غازٍ تاريخَه، وليس للعراقيين سوى أن يوقعوا عليه.
فالعراق لم يكن للعراقيين ولا لحظة في تاريخه، فقط كان حاضرا ومستقلاً في احتجاجاتهم والمشانق التي ابتلَعتْ أعناقهم. وعليه ليس هناك عراق خالص محدد التاريخ والجغرافيا ليحتفل ابناؤه بعيد وطني له.
النوايا الحسنة على بساطتها تُحاولُ أنْ تظللَ بعضَ النقاط التي تراها مضيئةً وجامعةً لهذا الشتاتِ التاريخي ، فتبحث فيما ظللّته عن يوم يحتفل به الشعبُ العراقي بعيد وطني لبلاده ، في خطوة لايجاد المشترك المستحيل ،فعسى ولعل ان يتفقوا على شيء ما هذه المرة ، وهم الذين لم يتفقوا يوماً على لون في علَمِ بلادهم، أو نبتةٍ أو شجرة أو ثمرة أو ورقة في غصن ، فقد ظلوا منقسمين بين أهل النخلة وأهل الشجرة وجماعة التمر وجماعة البلوط ، باحثين عن أي حدث أو موقف يعزز هذا الانقسام الذي اصبح عادة عراقية بامتياز .
شعب ينقسم على كل شيء . حتى الان لايعرفُ العراقي هل أن عبد الكريم قاسم مجرم سفاح غادر انهى مشروع الدولة العراقية حديثة العهد عام 1958 وأعدم من حصد الإعترافَ الاممي بالدولةِ رسمياً؟ ام أنه منقذ عظيم خالد حقق للعراق استقلاله الوطني، وأقام دولة عامرة بالتنمية خلال حكم الخمس سنوات التي قضاها على راس ثورته؟ .
هل إن سحل نوري السعيد جريمة أم انتقام أم ثورة (بيضاء) ؟ وهل إن عودة المديح لدوره الوطني وشخصيته المركزية في تاسيس الدولة العراقية ، هو اكتشاف متأخرٌ بناءً على دلائل جديدة؟ ام أنه شعورٌ جماعي بالندم؟ أم ماذا؟ .هل ان الحرابَ العراقية التي هجّرت العراقيين بدعوى أنهم يهود أعداء المسلمين والعرب القادمين من الجزيرة أو الذين تعودُ اصولهم الى بلاد فارس من قديم الزمان ، كانت حِراباً عادلة تطهّر الوطنَ من الأنجاس ؟ أم أنّها حِرابٌ همجيّةٌ منفعلة تحكمُ بالتفسير وتنتقم بالغضب؟
لا احد يجيب عن هذه الاسئلة ، وهناك من يعرف الاجابة ولايجرؤ على البوح بها ، لأنّ العائق العقائدي العابر للحدود تفوّق كثيراً على المنطق الوطني التاريخي والإجتماعي .
في ظل هذه الالتباسات غير المحسومة اليوم وربما الى الابد، بحث فريق النوايا الحسنة التي حرّكها الوزير الشاب ومعه نخبة من المثقفين عن فيء تستكين اليه جهودهم، ليقرروا يوما وطنيا للدولة العراقية، هو ذات التاريخ الذي تظاهرعراقيون فيه ضد ماحصل فيه ، لأنّ ثمنَ الاعترافِ بالدولة كانَ الدولةَ نفسَها كلَها بسيادتها، ودعمَ فئويتِها وتبعيتِها ، ليجعلوا العراق زميلاً لدويلاتٍ تحيط ُ به،
فالذين قسّموا المنطقة يعرفون جيدا أن هذا البلد ضارب بالقدم وينبغي اختصاره ، العراق، الكلمة التي كان يجبُ عليهم تغييرُها عند وضع خرائط الدول الجديدة ، دولٍ من مشايخ وصيادي لؤلؤ على الشواطيء وجماعات سلاّبة تتصارع على المُلكْ ، احتفلت، ومن حقها أن تحتفل لأنّ عصبة الأمم اعترفت بها دولا مستقلة ، أما العراق مقطّع الاوصال، الذي انهكته دول الخلافات وآخرها العثمانية ، فقد قسمّت عصبة الأمم المستحدثة روحَه وجسدَه وأرضَه ، واستوردوا له ملِكاً لم تلدْه أمُهُ في حقلٍ من حقولِه ، هذا البلد ،الضحية التاريخية ، لن يبْحثَ عن يوم ميلادهِ على جداولِهم ليحتفلوا به . لانه وجودٌ يستلهمونَ منه وليس وجوداً يعترفون به.
فريق النوايا الحسنة هذا يجهل أنّ التاريخَ ينفعلُ مثلما ينفعلُ الاشخاص ،وأنّ الحلول الوسط لاتصلح دائما لاسيما مع الكيانات التي تأكل نفسها، كذلك الشعوبِ التي قُسّمتْ و استُبدلتْ اوطانُها كما يُستبدل الدم عند المصاب بمرض اللوكيميا ، وان يوم 3 / 10 لن يحضرة احفاد قتلة نوري سعيد وآكلي لحْمِه، وأنّ يوم 14 تموز لن يحضرَه أبناءُ قتلة عبد الكريم قاسم، وان يوم تأسيس الدولة لن يحضرَه قتلة الملك وحاشيتِه هو وعمال المطبخ الذين خَرجوا يستغيثون بالله حاملينَ القرآنَ الكريم على رؤوسِهم دون جدوى ، وان يوم 17 تموز لن يحضرَه ضحايا الحروبِ والمقابر الجماعية ، وان 9 نيسان لن يحضرَه شعبُ العراق بأكمله بعدما ذاق من خديعة ذوي القربى، حين دفعوا دماءَهم وأموالهم دعما لهم فاغرقوا بلادهم بالفسادِ واللؤم وسوء الإدارةِ والفوضى .
مهمة عسيرة فعلا ، ومغامرة متشعبة العواقب غير المأمونة ، وتصورات بسيطة رومانسية ، كان لها أن تبتعد كثيرا الى الوراء ، فعند اعماق التاريخ ربما تلتئم الجروح ، فيختاروا أعياداً سومرية أو بابلية أو إحتفالات للناس بالطبيعة، أو أي شيء آخر لاحيائها سنويا كعيد وطني لسكان هذه الأرض، بدلَ ركوب أوْحالِ المختلفِ عليه في هذا الوطن العجيب.