د. احمد عدنان الميالي
لازال الجدل مستمرا حول اعتبار احداث ١٤-تموز -١٩٥٩ ثورة ام انقلاب عسكري ؟، ولازالت الموتقف متضاربة ازاء تأييد او استنكار ماقام به عبد الكريم قاسم رغم بعض المنجزات التي قدمها ابان فترة الاربع سنوات التي حكم العسكر فيها العراق، لكن من المهم قبل ذلك معرفة الاسباب والدوافع التي هيأت الظروف لهذه الاحداث بغض النظر عن الحكم عليها.
ممكن متابعة هذه المقدمات منذ عام ١٩٥٢ حيث حدثت اضطرابات ادى على اثرها تكليف الجيش بالحكومة برئاسة نور الدين محمود وهذه اول بوادر تدخل العسكر في السياسة بشكل سلس دون انقلاب كما حصل بانقلاب بكر صدقي عام ١٩٣٦ وثورة الضباط الاربعة عام ١٩٤١، واستطاعت حكومة نور الدين اخماد تلك الاضطرابات واجريت الانتخابات على مرحلة واحدة وفاز نوري السعيد بالاغلبية . في كانون الثاني عام ١٩٥٣ تم افتتاح البرلمان الجديد وكان الاختيار ليس على اساس حكومة الاغلبية وانما اختير جميل المدفعي .. وبعد اربع اشهر في ٢ مايس تم تتويج الملك فيصل الثاني الذي كان قد ارسله خاله الوصي عبد الاله منتصف الاربعينات لغرض الدراسة مع ابن عمه الملك حسين بن طلال .. كان فيصل ضعيف البنية يعاني من مرض الربو قبل عودته للبلاد، ونظمت له جولات تفقدية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة حيث ابتعد عن العراق اكثر من ست سنوات وحال عودته اخطر اليه ان يقوم بجولات في المدن العراقية ..الشيء المهم في شخصية الملك فيصل ان ثقافته كانت محدودة وتربى في بيت كله حنان وعطف ورعاية امه الملكة عالية.. فالملك لم يكن مطلع على شؤون البلاد ولم يعرف الرجال الذين لهم خبرة سياسية وكان اقرب الرجال له هو الامير رعد بن زيد بن الحسين. الشيء المؤسف ان فيصل لم يتسنى له ان يحظى برعاية مخلصة في شؤون الحكم، حيث ان الوصي عبد الاله لم يكن مهتم في رعايته وتعليمه شؤون الحكم، كما ان عبد الاله ترك مسؤولية الوصي وضمن لنفسه منصب ولي العهد، وبعد التنصيب اصبح لعبد الاله غرفة قريبة الى غرفة الملك مما اثر عليه في اصدار القرارات.
عام ١٩٥٣ كان مليئا بالاحداث الدولية والاقليمية منها اضراب عمال السكك ، واسقاط حكومة مصدق وعودة الشاه لايران وتزايد فكرة مواجهة المد الشيوعي للاتحاد السوڤيتي مما طرح في هذه الفترة فكرة تشكيل حلف دفاعي مضاد هيأ له وزير الخارجية الولايات المتحدة جون فوستر دالاس الذي زار بغداد وعقد له مؤتمر تحدث فيه عن اهمية معاهدة الدفاع عن الشرق، وكان تمهيدا لتاسيس حلف بغداد عام ١٩٥٥ الذي ادخل العراق رسميا في خانة التماهي مع المصالح الغربية.
اثناء ذلك اظهر البلاط الملكي رغبة بتشكيل حكومة جديدة وفعلا استقالت حكومة المدفعي وكلف محمد فاضل الجمالي بالوزارة ، وهنا الاغلبية لازالت عند نوري السعيد الذي يتحكم بعملية الدعم او خلاف ذلك لاي حكومة تشكل او تستقيل، ورغم النصائح للجمالي بحل البرلمان واجراء انتخابات ليضمن اغلبية ولو بسيطة له الا انه رفض ذلك.. بسبب علاقته الجيدة بنوري السعيد.
لم تدعم نيابيا حكومة الجمالي ولم تحصل على الارادة الملكية رغم الاصلاحات التي قام بها الجمالي ومنها قانون الضريبة الذي تضرر به عدد من الاقطاعيين النواب من جماعة نوري السعيد، وجاء فيضان بغداد في نيسان عام ١٩٥٤ الذي قسم ظهر حكومة الجمالي، بعد انهيار السدة الشرقية وغرق قاعدة الرشيد ، مما ادى الى استقالتها، وتم تكليف ارشد العمري بالوزارة بتوجيه من عبد الاله واجريت انتخابات تزايد فيها عدد النواب المستقلين والمعارضين من الشيوعيين والبعثيين وتم تشكيل تحالف مدني لمواجهة تموضع العراق تجاه الغرب ومطالبة البلاط بعدم الانحياز، وهنا عادت قوة نوري السعيد مقابل ضعف عبد الاله بعد الاتفاق بينهما في باريس حينما كان السعيد مريضا يتشافى فيها .
وعقد البرلمان الرابع عشر في ٦ تموز الذي استمر ٤٥ يوم فقط بعد ان حله نوري السعيد، هنا بدأ يتخبط السعيد واراد الموازنة بين استقلال العراق ومصالح بريطانيا خارجيا، وتوجهه لتصفية الشيوعيين داخليا.
بعدها جاء حلف بغداد الذي اكد انحياز العراق لبريطانيا، ثم احداث عام ١٩٥٦ العدوان الثلاثي على مصر ، الذي ازدادت ثورة الجماهير العراقية وغضبها على اثره ، بعد ان سادت اشاعات ان الهجوم على مصر انطلق من قاعدة الحبانية واعادة فتح انبوب نفط كركوك – حيفا .
هنا طالب الشعب باسناد مصر والاردن التي كانت تخشى احتلال اسرائيل لاراضيها، كل هذه محركات ناقمة ضد الحكم الملكي في العراقي على المستوى السياسي والشعبي.
بعدها اصبح الوضع اقليميا منقسم وحاول نوري السعيد ان ينشأ حلف يسمى ” حلف الملوك” بين العراق والاردن والسعودية لمواجهة معسكر حلف الجمهوريين ” سوريا ومصر” بعد ان سيطر الشيوعيين والبعثيين على سوريا ومقدراتها وفشلت فكرته بسبب الموقف الامريكي بمنع ال سعود من الدخول بهذا الحلف. وظهرت الجمهورية العربية المتحدة بعد ذلك عام ١٩٥٨ بين مصر وسوريا وكان اتحاد اندماجي متطور وهنا قدمت حكومة علي جودت الايوبي الاستقالة وكان موكلا اليه مهمة تقريب سوريا من العراق لان الوصي كان يطمع بالعرش فيها، وتم تكليف شخصية جديدة وهو عبد الوهاب مرجان وهو من الحلة وشاب وصديق نوري السعيد ، الذي بدأ دوره يضعف بسبب كراهية القوى السياسية له ولتاثيره في الوزارات المتعاقبة وكثرة توليه رئاستها، مع ذلك حكومة مرجان لم تدم طويلا بسبب طرح فكرة جديدة هي الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن فكان عليه تقديم استقالته وتولى السعيد المهمة بدلا عنه، وعمل على حل البرلمان واجريت انتخابات جديدة فاز نوري السعيد باغلبيتها وايدت وقبلت بالوثيقة الجديدة ” الاتحاد الهاشمي” بعدها تم تشكيل اول حكومة للاتحاد مشتركة برئاسة نوري السعيد الذي كان يعترض عليه الملك حسين، وضمت هذه الحكومة وزراء عراقيين واردنيين ولم يتم استقبال هذه الاتحاد شبه الوحدوي بالقبول من قبل الاحزاب والشعب وقوبل ببرود ولم تقم احتفالات له سوى الحكومية.
اما الحكومة العراقية المحلية فقد تم تشكيلها من قبل اخر رئيس وزراء احمد مختار بابان وهو شخصية كردية ولم تدم طويلا بعد ان اسقطها الجيش في احداث ١٤ تموز عام ١٩٥٨.
ان سبب سقوط النظام الملكي ذات الجذور غير العميقة كانت مرتبطة بهذه الظروف منذ عام ١٩٥٢، وحلف بغداد واحداث مصر ١٩٥٦، والاتحاد الهاشمي والوضع المضاد في سوريا ولبنان ومصر ، كما رفض قادة ونخب النظام الملكي تجديد انفسهم وعانوا من ضعف في المواقف .
كما ان تشكيل حركة الضباط الاحرار ومجموعة بغداد اهمها( عبد الكريم قاسم ، عبد السلام عارف ، رفعت الحاج سري، عبد المجيد الربيعي، صبحي عبد الحميد، طاهر يحيى ..) واهتمامات هذه الجماعة العروبية والقومية ووجود قطاعات كبيرة من الجيش معهم ومع التغيير ..دعمت نجاح خطتهم بالانقلاب.
عملت سرعة الاحداث خلال ساعتين وقتل الملك فيصل وعبد الاله التي لم يكن مخطط او متفق عليها على تعجيل ونجاح حركة الجيش .
الاغرب من ذلك كله رغم كل مشاهد القسوة والعنف داخل قصر الرحاب الا ان هذه الاحداث حصلت على دعم ونزول جماهيري كبير مؤيد لما حصل..
بعدها حصلت الحكومة الجمهورية الجديدة على دعم من مصر والاتحاد السوڤيتي وسرعة اعلان الاعترافات بها دوليا..
كان عبد الكريم قاسم ذكي وذا حنكة فلم يتعرض الى المشاكل والامور الخارجية ولم يعلن تأميم النفط مباشرة ولم يطلب مغادرة الطائرات البريطانية، ولم ينسحب العراق في بادئ الامر من حلف بغداد، ولم يستعجل في اعطاء وعود لتحقيق الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة .
هذه عوامل كلها دعمت حكومة قاسم خارجيا ثم اتجه الى تبني قوانين وسياسات اصلاحية داخلية ناغمت الفقراء مما جعلها اكثر قوة وقبول ورسوخ.
مقدمات احداث ١٤ تموز ١٩٥٨ / د. احمد الميالي
(Visited 73 times, 1 visits today)