د. احمد مشتت
في يوم ٢٧ من شهر تشرين الثاني عام ١٩٩٤
الساعة الحادية عشرة صباحا شُيدت منصة للوداع في موقف باصات كراج علاوي الحلة من دموع اختي وخالي عبد الحسين واهل سلام.
وداع صامت تماما وكأن الحاضرين في تلك البقعة قد قرروا اعتزال ضجيج الحياة من حولهم باتفاق مسبق.
العناق اردى الكلام قتيلا وتمت خيانة اللغة على اكمل وجه.
الاذرع الملتفة حول الاجساد سلمت الوصايا الاخيرة.
ظلت هذه الاذرع ترافقنا في رحلة الباص الطويلة حتى الحدود ومنحت اجساد المسافرين الضامرة والتي فقدت استقامتها بفعل لحظة الوداع الفارقة، منحتها القدرة النادرة على تخطي الحاجز الاخير نحو الحرية.
اتى سلام بحقيبة كبيرة ملاتها امه بملابس واغطية وطعام يكفي لمدة اسبوع. اما حقيبتي فظلت كما هي صغيرة وهشة. هيات لنا اختي زوادة السفر في كيس منفصل.
كنت ارتدي بنطالا ازرق وسترة رمادية فيها خطوط سوداء . كانت هذه السترة قد وصلتني ضمن حاجيات اخرى من اخي الكبير في لندن قبل عام. كانت جميلة الى درجة انه لم يبقى احد في فرع العائلة في بغداد لم يرتديها. جربها اخوتي كلهم. في يوم ما وانا عائد الى الى بيتنا من العمل رايت صديق لاخي الاصغر قد استعار السترة
وعندما سالت اخي عن ذلك
قال لي
-رياض اليوم عنده موعد غرامي. ويريد يطلع انيق، لازم نسانده.
وعندما غادر اخوتي الى الاردن مع امي
قالوا لي:
⁃ استمتع بالسترة صارت ملكك وحدك.
مع السترة تركوا رائحتهم وعطورهم واثر ضحكاتهم وبعضا من خيباتهم.
خالي عبد الحسين كان اكثر المودعين صمتا. استندت اليه لعله يسهل فاجعة الوداع علي. رغم سوء حالته الصحية وهو مازال يتعافى من عملية زرع الكلى لكنه جاء بكل ذخيرته من الصبر والتحمل ليقف هناك مثل جذع نخلة امتدت جذورها بعيدا في هذه الارض.
كان على وجهه ابتسامة منتصر تسربت الي.
حين انفضت جوقة الوداع احسست ولاول مرة منذ هذا الصباح العجيب بالوحشة. هذا الفراغ الذي يملأ الروح ولاتستطيع ان تملأه.
وكان علي ان اقنع اقدامي التي تشبثت بالرصيف ترفض المغادرة والحقائب التي تمردت على فكرة الرحيل.
حسم سائق الباص الموقف اخيرا.
صعدنا انا وسلام.
اختار سلام مقاعدنا في وسط الباص. حسب تنظيراته الفلسفية في الرحلات الطويلة من بلاد الخوف،
⁃ اذا تجلس في البداية، اول شىء يشوفه رجال الامن من يفتشون الباص بالحدود انت
⁃ واذا بالاخير اخر شي يشوفوه انت
⁃ ولهذا بالوسط احسن لانهم يفقدون التركيز عليك. الدماغ يتوقف عن العمل من يوصلون منتصف الباص.
من انا لأجادل هذا المفكر الكبير والمخطط الفذ.
استقرت اجسادنا بعد تلقي لكمات الوداع القاسية في المقاعد. سلام تنازل عن المقعد القريب من الشباك
⁃ لانك شاعر فقط، حتى تودع هذي المدينة صح
هذا ماقاله وهو يفسح لي المجال ان الصق وجهي بالنافذة لاحاول ان اخزن في ذاكرتي ملامح المكان ووجوه الناس وحركة اجسادهم
_ولكن كيف لي ان اتذكر طعم الهواء
هذا ماحدثت به نفسي الملتاعة.
ظل اهالي المسافرين في مواقعهم مرابطين لحين مغادرة الباص الفعلية. فاتنا انا وسلام في خضم اللحظة وعواطفها المتدفقة ان نتاكد من ان احدا في الباص لايعرف اننا اطباء ، من مرضى سابقين، او من اشخاص قد يهددون خطتنا في لحظة التشطيب النهائية.
سائق الباص وهو يبدأ تشغيل المحرك وضع كاسيتا في آلة التسجيل.
وصدح صوت كاظم الساهر في مؤامرة منظمة للاطاحة بمحاولة المسافرين في الحفاظ على رباطة جأشهم:
_شلون اودعك يالعزيز
وبيدي احجز للسفر.
⁃ سايقنا يمعود گلبنا خلص من الوداع
صرخ مسافر اربعيني من المقاعد الخلفية مستنجداً بالسائق لتغيير الاغنية
_خلص ودعنا العزيز. واكمل بصوت تعثر بالحكايات التي خلفه.
مساعد السائق انبرى للدفاع عن اختيار الاغنية
_تره ماعدنا هنا برنامج مايطلبه المستمعون. قال بحزم للسيطرة على الفتنة.
السائق رفع صوت المسجل.
وعندما انتهت الاغنية ومازلنا في زحام العلاوي داس زر الارجاع لتنهمر من جديد شظايا الوداع
_ شلون اودعك
خُيل لي اننا نراوح في مكاننا في العلاوي وان الباص استغرق دهرا هناك. الوقت توقف ولم يعد له وجود محسوس.
بالنسبة لي ولسلام الان فقط بدأ الفصل الحاسم من الرحلة. ملحمة الحصول على جواز السفر كانت مجرد تمرين بسيط لمواجهة ما سيأتي في الساعات المقبلة.
يتبع