معنى أن تكون معارضاً .. د. عبد الستار الجميلي

معنى أن تكون معارضاً .. د. عبد الستار الجميلي

أ.د عبد الستار الجميلي

    في لقاء في دمشق عام 2008، مع المعارضة السياسية السورية العلنية المسموح لها بالعمل العلني من قبل الحكومة السورية، وجُلّهم من التيار القومي الناصري السوري وفي مقدمتهم الإتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي الذي يرأسه الأخ حسن عبد العظيم. سألني أحد الإخوة عن نصيحتي للمعارضة السورية بإعتباري معارضاً عراقياً سابقاً، أجبته بأن نصيحتي تتلخص في كلمات قليلة: لا تشوهوا وتخربوا شوارع دمشق الجميلة بالدبابات الأمريكية، كما شوّهت وخرَّبت بعض المعارضة العراقية شوارع بغداد الجميلة بالدبابات الأمريكيةالمعتدية.

    وفي لقاء سياسي آخر في القاهرة بعد ما سُمّي بالإعلامالأمريكي والغربي بـــ((الربيع العربي))، مع  عدد من الفعاليات السياسية العربية في القاهرة، قلت في معرض مشاركتي بأنني معارض للمعارضة العربية، التي ثبت أنها الوجه الأكثر سوءاً للأنظمة العربية، وأشفعت رأيي هذا بجملة أسباب: إن المعارضة العربية التي إتهمت الحكام بأنهم مرتبطين بالخارج الذي جاء بهم الى السلطة، هي نفسها التي إستقوت بالتدخل الخارجي وإستجلبت الإحتلال الأجنبي، كما حدث في العراق وتونس وليبيا وسورية واليمن ولبنان وغيرها من الساحات العربية..والمعارضة العربية التي تحدّثت طويلاً عن ديكتاتورية الحكام وتمسكهم بالسلطة، الزعيم والأمين العام فيها مؤبد لا فكاك منه إلا بالرحيل عن الدنيا.. ولم يسلم حاكم عربي الا وإتهمته المعارضة العربية بالفساد والصفقات في الداخل والخارج، فيما الكثير من المعارضين إستلموا ويستلمون التمويل إقليمياً ودولياً.. أمّا بعد إستلام السلطة في بعض الدول العربية فقد فاقت المعارضة العربية أساليب الأنظمة العربية في إختراع فنون القمع والإرهاب والإستبداد والفساد والتبعية للخارج والتماهي الكامل مع مشاريعه للإحتلال والتدخل والتموضع، وتحت عناوين الديمقراطية وحقوق الإنسان و((النظام الجديد)) والواقعية السياسية ” المبتذلة”.

    فما معنى أن تكون معارضاً في ظلِّ هذه النهاية المأساوية التي وصلت إليها المعارضة العربية بشكل عام؟

     ودون الدخول في تفاصيل الجذور التاريخية والفلسفية والسياسية لمفهوم ومصطلح ودلالة مفردة المعارضة، فإنّ المعارضة في جذرها الطبيعي كانت جزءاً من معادلة أول تشكيلة سياسية وإجتماعية عرفتها البشرية، في داخل كل الدول والدويلات والإمارات والإمبراطوريات وغيرها من الأشكال، فقد كان هناك دائما حكاما/ومحكومين، حكومة/ومواطنين حديثا. وبين المحكومين/المواطنين كان هناك من لا يقبل بالحاكم أو الحكومة، أي يتخذ موقفاً معارضاً لأسباب سياسية وغير سياسية.. ما يعني أنَّ المعارضة هي موقف طبيعي وجزء لا يتجزأ من طبيعة الدولة، وكانت قواعد القوة والغلبة هي التي تحكم العلاقة بين طرفي المعادلة السياسية والإجتماعية داخل ميدان الحكم.. ومع إتفاقية وستفاليا لسنة ١٦٤٨ التي شهدت ولادة الدولة الحديثة وقواعد القانون الدولي التقليدي، بدأت المعارضة تأخذ إطارا قانونياً، تطور إلى إطار قانوني وسياسي شرعي مع بواكير الديمقراطية، ومآلاتها الإيجابية والسلبية معاً. وكانت أحد تجلياتها السلبية، هي الأزمة التي دخلت فيها الديمقراطية والمعارضة معاً. فالديمقراطية التي طرحت نفسها على أنّها حكم الشعب وتوكيد السلطة والسيادة له، إرتبطت بالإستعمار والإستغلال والهيمنة والإحتلال والتدخل من قبل الغرب، فكان على المعارضة أن تُنظم أهدافها في إطار حركة تحرر وطني محلية وعالمية، طبعت مرحلتي ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها. ومرحلة الحرب الباردة وما بعدها.

  وكان الوطن العربي أحد الميادين الرئيسة لهذه التطورات المحلية والعالمية، ومن ضمنه العراق، فقد كان من جهة ضحية لهذا الإستعمار والإحتلال والعدوان، ومن جهة أخرى كان عليه أن يخوض معركة تحرر وطني بين خيارين، الأسلوب السياسي بالمهادنة والأسلوب العسكري بالمواجهة، بعد أن تمت تجزئة الأرض، وبالتالي تجزئة المعركة.. ومع بداية تشكيل الدولة العراقية الحديثة في عام ١٩٢١، بدأت المعارضة العراقية تتبلور في إطار خيارين: الجذري والإصلاحي، إذ كانت جذورها الحديثة مغروسة في تربة الأرض التي كانت تعاني من الإحتلالين العثماني والبريطاني، لكنَّ ساقها وأغصانها وأوراقها لم تتكون إلا في إطار المجتمع الوطني المحدد، وكلا الخيارين؛ الإصلاحي والجذري توزعا على جميع أطراف الحركة السياسية العراقية المعاصرة: التيار القومي العربي، والتيار الماركسي، والتيار الإسلامي، والتيار الليبرالي، إلى جانب تيار الأقليات.

    لكنَّ هذه التيارات السياسية التي شكلت الحركة الوطنية العراقية، والتي أسفر تحالفها النوعي في إطار جبهة الإتحاد الوطني عن تفجير ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ التي أنهت النظام الملكي بإعلان الجمهورية، سرعان ما دخلت في آتون الصراعات البينية والقمع المتبادل عبر سلسلة من الثورات والإنقلابات، إنتهت بفرض سلطة حزب واحد بديكتاتورية فردية، مهدت الأرضيةبإدارتها الأمنية الأحادية لأطراف محلية ودولية أن تمارس عملية تفكيك ثقافي أولا ومن ثم تفكيك إجتماعي وسياسي وهوياتي، طال الحركة الوطنية العراقية، التي جرى تصفيتها بتحويلها إلى جماعات طائفية وعنصرية وأقلوية، ببرامج تجزيئية تقسيمية،غاب عنها حس الدولة وفكرتها والأفق الوطني الجامع.. لذلك كان تماهي هذه الأطراف َمع مشاريع الأطماع والعدوان الإقليمية والدولية، مباشرا وبحسابات آنية وذاتية مغلقة، تجلّى هذا المنحى الخطير في مؤتمري لندن ٢٠٠٢ وصلاح الدين ٢٠٠٣، حيث كانت بعض الأطراف تُبيت رؤية تجاوزت معارضة النظام الديكتاتوري إلى معارضة الوطن نفسه، فلم تكتف بمشروع إسقاط النظام وإنما تبنّت وبعلنية فجّة هدم الدولة ومؤسساتها جميعا، والإستقواء بأمريكا وفتح كل المحرمات والمحددات الوطنية أمامها. فقد برز في كلا المؤتمرين خطان واضحان: خط وطني ديمقراطي كانت معارضته تقتصر على النظام دون المساس بالدولة العراقية كيانا ومجتمعا وهوية ومؤسسات.. وخط إنعزالي إنفصالي كانت معارضته للنظام مجرد غطاء لهدم الدولة وتفكيك هويتها وبنيتها البشرية والمادية، لذلك كان تماهي هذا الخط مع الإحتلال الأمريكي كاملا، تعاوناً وتبريراً، وهدماًونهباً وتصفيةً، طال حتى الأرشيف الوطني للعراق وذاكرته التاريخية وثرواته الوطنية وأمواله العامة، وفتح الحدود مشرعة أمام كل أنواع الإحتلال والتدخل والتموضع والإرهاب الدولي والإقليمي والمحلي.

    هذه المحصلة/الفجيعة التي كسرت بقسوة حلم أجيال طويلة بالتغيير السياسي الإيجابي  والتحول الديمقراطي السليم، أحدثت رذَ فعلٍ نفسي وأخلاقي عنيف على المستوى الفردي والجمعي، وطرحت سؤالا أعنف عن معنى أن تكون معارضاً؟ ضاعفت هذا السؤال عنفا ورد فعل، ما آل إليه حراك ما سمي بـــ((الربيع العربي))، الذي تحول من حراك سلمي بمطالب سياسية وإجتماعية مشروعة إلى عنف وإرهاب وإبادة جماعية وإستجلاب للإحتلال، ومن تغيير سياسي للأنظمة الى تغيير للخرائط والهوية، والأعلام  والرموز المستقرة في العقل والضمير الجمعي.

    فما معنى أن تكون معارضاً؟

    أن تكون معارضاً عليك أولا: أن تضع فارقاً حدّياً بين الدولة ككيان ومجتمع ومؤسسات ورموز، وبين النظام الذي تعارضه،فللدولة محدداتها وثوابتها وأمنها الوطني، التي تستلزم المحافظة عليها والدفاع عنها كما لو أنك في السلطة، مهما كانت حدّة معارضتك للنظام، وحدّة النظام في إستبداده وقمعه،فالأنظمة بطبيعتها متغيرة وتعبر عن البعض القابض للسلطة، أما الدول وأركانها فهي ثابتة وتعبر عن الكل المالك للدولة ومؤسساتها وهو الشعب بمجموعه.. وعليك ثانياً: أن تضع خطاً أحمراً دائماً أمام عينيك حين تضطر إلى التعامل بطريقة أو أخرى مع العامل الخارجي، وهو أن أمن وطنك وأسراره ومصالحهالجماعية العليا وسيادته وسلامة أراضيه الإقليمية، غير قابلة للتفاوض أو التفريط أو المساومة.. وعليك ثالثا: أن تنظر إلى جميع من يحمل جنسية بلدك على أنهم مواطنيك، لهم وعليهم نفس الحقوق ونفس والواجبات، حتى من هم في السلطة أو مؤيدين لها، وبالتالي يجب أن لا يكون تعاملك معهم بنفس طريقة تعامل النظام الذي تعارضه معك، كرد فعل، وإلاّ ما الفارق بينك وبين النظام الذي تعارضه .. وعليك رابعاً وضمن سياق النقطة السابقة: أن يكون معيارك إذا ما دالت الدولة إليك وإستلمت السلطة، أن يكون معيارك هو القانون والحق والعدالة التي طرحتها كتوصيف لبرنامجك، في تعاملك مع من كانوا قابضين على السلطة قبلك، وإلاّ ستتحول من ضحية سابقة إلى جلاد جديد لن تختلف عن السلطة التي عارضتها، بالإستبداد والقمع والفساد، ما يُحوّل تداول السلطة، ومهما كان أسلوب التداولديمقراطياً أو ديكتاتورياً، يحولها إلى دائرة مغلقة من الإستبداد والقمع المتبادل.. فالسلطة والمعارضة كلاهما يقمع ويقتل ويسجن ويُقصي وينفي.. فما الفارق؟؟؟!!!

    وتلك هي مأساة الحكم والسلطة وإشكاليتهما في الوطن العربي عموما، والعراق منه، أنّ السلطة والمعارضة باتا وجهين لعملة رديئة واحدة، لكن الوجه الأسوأ فيها هي المعارضة بكلّ مسمياتها وشعاراتها، حيث تحوّلت من بديل يُمثّل الأمل والخلاص، إلى مدرسة سيئة لتخريج أسوأ الطُغاة والسجانين والفاسدين والمُفرطين بإستهانة بكل ثوابت الوطن وهيبة الدولة ومصالح الشعب العليا.. ما أعطى شرعية غير مستحقّة للطُغاة الذين سبقوهم، وألقى بالشعب في غيابة فقدان الثقة وغياب الأمل، وأدخل جميع الأطر التنظيمية والمؤسسية للأفكار والبرامج والأيديولوجيات في دائرة الشك والأسئلة الإستنكارية المشروعة؟   

 

(Visited 90 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *