خاطِرَةٌ سَريعَةٌ (صَلاح يُوسُف الدَهَش)
يُعَدُّ تَقَدُّم أعْمار البَشَر أَحَدُ الفُصُولِ اَلتِّرَاجِيدِيَّةِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَوِيَّةِ الّتي لا مَفَرَّ مِنْهَا. فَكُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ يَرَى أَنَّ عُمْرَهُ يَتَقَدَّمُ أَسْرَعَ مِمَّا يَنْبَغِي قَبْلَ إِمكَانِيَّةِ تَحْقِيق مَا كَانَ يَحْلُمُ بِهِ. لَكِنَّ، هُنَاكَ مَنْ يُصْبِحُ حَكِيمًا بِدَرَجَةٍ رَاقِيَةٍ وَوَاعِيَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ مَأْلُوفٌ حِينَمَا يَصِلُ عُمْرًا مُتَقَدِّمًا مِنْ حَيَاتِهِ. وَهُنَا لَابُدٌّ مِنْ اَلْإِقْرَارِ أَنَّ اَلتَّقَدُّمَ بِالْعُمْرِ لِوَحْدِهِ لَا يَأْتِي بِالْحِكْمَةِ، فَالْحِكْمَةُ تَأْتِي بِقُوَّةِ اَلْمُلَاحَظَةِ وَالْحِسِّ اَلسَّلِيمِ وَتُكْتَسَبُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اَلِاسْتِيعَابِ، وَالْحِكْمَةُ فِي دَوْرِهَا لَا تَعْنِي عَدَمَ اِقْتِرَافِ اَلْأَخْطَاءِ، لَكِنَّهَا تُنَبِّه بِكَيْفِيَّةِ اَلتَّخَلُّصِ مِنْهَا بِعَقْلَانِيَّةٍ أَكْثَرَ. لِذَلِكَ، لَيْسَ اَلْجَمِيعُ يَنْضَجُ بِمَا فِيهِ اَلْكِفَايَةُ.فَالْبَعْضُ يُدْرِكُ أَنَّ اَلْوَقْتَ يُفْلِتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ كُلَّمَا تَرَاكَمَتْ سَنَوَاتِ اَلْعُمْرِ وَقَدْ فَاتَ اَلْأَوَانُ لِتَحْقِيقِ اَلْأَهْدَافِ اَلْمَنْشُودَةِ؛ وَمِنْهُمْ مِنْ يَضْطَرُّ آسِفًا لِلْإِقْرَارِ بِعَدَمِ اَلتَّمَكُّنِ مِنْ لَعِبِ اَلْأَدْوَارِ اَلْمُهِمَّةِ مُكْتَفِيًا بِالرُّكُونِ إِلَى اَلظِّلِّ وَالْعَمَلِ بِأَدْوَارِ صُغْرَى، مُتَنَاسِينَ أَنَّ فِي دَوَاخِلِهِمْ آبَارًا عَمِيقَةً مِنْ اَلْقُوَّةِ غَيْرِ مُسْتَنْفَذَةً وَلَمْ يَسْتَخْدِمُونَهَا بَعْد. وَمِنْ هُنَا لَا بُدَّ مِنْ اَلْقَوْلِ يَقِينًا أَنَّ تَقَدُّمَ اَلْعُمْرِ رَبَّانِيّ، فَهُوَ إِلْزَامِيٌّ وَيَشْمَلُ اَلْجَمِيعُ، أُمّا اَلتَّقَدُّمِ اَلْمَعْرِفِيِّ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَوِيَّةِ فَهُوَ اِخْتِيَارِيٌّ.
غَالِبًا مَا تَكُونُ مَحَطَّات قِطَارِ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَوِيَّةِ، لَدَى مُعْظَمِ اَلنَّاسِ، مَلِيئَةً بِالْمَوَاقِفِ اَلصَّعْبَةِ وَالْكَبَوَاتِ وَالْآلَامِ عَلَى اِخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَقَسْوَتِهَا، فَلِكُلِّ مَحَطَّةِ ظُرُوفِهَا وَمُعْطَيَاتِهَا. ذَلِكَ قَدْ يُعَدُّ أَمْرًا طَبِيعِيًّا، رُبَّمَا يَتَكَرَّرُ عِنْدَ اَلْبَعْضِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَحَطَّةٍ، مِمَّا يَتَوَجَّبُ تَعَدِّيهَا وَنِسْيَانُهَا، رَغْمَ أَنَّ البَعضَ قَد يكَابِدُ مَشَاعِرَ مُؤلِمَةًخِلالَ مَرحَلَةِ الطّفُولَةِ وَيَبقَى مَذاقُها الحَادُّ في الإحسَاسِوالوِجدانِ طَوَالَ العُمرِ. فَتَجِدُ اَلْكَثِيرَ مِنْ أُولئِكَ اللَذينَ يُبْقُونَهَامَخْزُونَةً فِي ذَاكِرَتِهِمْ وَيَتَعَايَشُونَ مَعَهَا بِنَدَمٍ وَحُزْنٍ وَأَسَفٍ طَوَالَ حَيَاتِهِمْ مُرَسِّخِينَ اَلْمَشَاعِر اَلسَّلْبِيَّة اَلَّتِي تُرِيهِمْ قَتَامَة اَلْعَيْشِ وَكَدَرِهِ بَدَلاً مِنْ اِعْتِبَارِهِمْ لَهَا مُجَرَّدٌ ذِكْرَيَاتٍ مَرِيرَةً وَحَزِينَةً وَلَّتْ وَانْتَهَتْ.
وتَبْقَى كُلُّ مُحَاوَلَاتِ إِيقَافٍ أَوْ تَعْطِيلٍ لِعَجَلَةِ تَقَدُّمِ اَلْعُمْرِ تُوَاجَهُ بِالْوَقْتِ اَلْغَاضِبِ اَلَّذِي يَنْتَصِرُ عَلَيها دَوْمًا. فَلَيْسَ مِنْ اَلسَّهْلِ أَنْ يَرَى كُلُّ إِنْسَانٍ وَاعٍ نَفْسَهُ بَعِيدًا عَنْ تَحقيقِ أَحْلَامه، وَيَبْقَى تَفْكِيرُهُ مُنْشَغِلاً فِيهَا. فَتَرَاهُ مَسْرُورًا كُلَّمَا اقتَرَبَ مِنْ تَحْقِيقِهَا وَمُمْتَعِضًا، بَلْ وَمُتَأَلِّمًا جِدًّا كُلَّمَا أَوْشَكَ اَلِابْتِعَادُ عَنْهَا لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ. وَلِلْأَسَفِ اَلشَّدِيدِ فَإِنَّ اَلْآلَامَ لَا تَحْتَرِمُ اَلْعُمْرَ، وَعَلَيْهِ يَتَوَجَّبُ عَدَّ ذَلِكَ تَحَدِّيًا لِجَعْلِ اَلصَّدَمَاتِ خِلَالَهُ جُرُعَاتِ تَقْوِيَة لِلْمَنَاعَةِ ضِدَّ اَلْمَزِيدِ مِنْ اَلْأَوْجَاعِ. وَلَقَد أَثْبَتَ اَلْعَدِيد مِنْ اَلنَّاسِ أَنَّهُ مِنْ اَلْمُمْكِنِ تَحْقِيقُ اَلنَّجَاحَاتِ فِي كَافَّةِ اَلْمَرَاحِلِ اَلْعُمْرِيَّةِ. وَالتَّارِيخُ حَافِلٌ بِالأَشْخَاصِ اللَذينَ نَجَحُوا بِتَحْقِيقِ طُمُوحَاتِهِمْ اَلْكَبِيرَةِ وَهُمْ بِأَعْمَارِ مُتَقَدِّمَةٍ. فَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فَاتَ اَلْأَوَانُ لِتَحْقِيقِ مَا كَانَ يَصُبُّوا إِلَيْهِ عَلَيْهِ مُرَاجَعَةُ ذَاتِهِ وَعَدَمِ اَلِاسْتِسْلَامِ وَالتَّوَقُّفِ عَنْ اَلْمُحَاوَلَاتِ، لأن عَدَمَ النَجاح في بَعضِهَا لا يَعني سوى ما حَدَثَ مِنْ أخْطَاءٍ في أمرٍ مَا خِلال هذِهِ المُحاوَلَة أو تِلْك، وهَذا لَيْسَ فَشَلاً نِهائِيّاً واعتِبَار الشَخْص لا يَصلُح لِتَحقيق الحُلُم المَنشُود، مِمّا يَنْبَغِي اَلْإِصْرَارُ والمُثابَرَةوالإيمَان بالنَفْسِ مِنْ أجلِ اَلْوُصُولِ إِلَى اَلْهَدَفِ المَطلُوب، وَعَدَمِ جَعْلِ اَلْعُمْرِ عَائِقًا أَوْ مُبَرِّرًا أَمَامَ تَحْقِيقِ المُراد، فَلا مُستَحيلَ مَعَ التَصميمِ، فَمَا زالَ في العُمْرِ فُسْحَةً وما زالَ في العُمْرِ بَقِيَّةً.
وَلِكَيْ أَخْتِمَ خَاطِرَتي اَلسَّرِيعَة هَذِهِ، لَابُدّ مِنْ اَلْيَقِينِ أَنَّ اَلْعُمْرَ يَتَقَدَّمُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ بَاضِطْرَادٍ سَرِيعٍ، وَهُوَ لا يُقاسُ بِعَدد السنين بَل بالشّعُورِ خِلَالِها، فَلا تُوجَد فَتْرَة عُمْرٍ أفْضَل مِن غَيرِهَا، مِمَّا يَجْعَلُ اَلْأَغْلَبِيَّةَ تَمِيلُ إِلَى تَفْضِيلِ أَمَاكِنَ تُشْعُرَهُم بالإرتِيَاحِ والسَعادَةِ أكثَر مِن غَيرِها، فَمِنْهُم مَنْ يَختَار بِحِكْمَةٍ اَلطَّبِيعَة اَلْهَادِئَة عَلَى تَجَمُّعَاتِ اَلصَّخَبِ، مُكْتَفِينَ بِمَنْ يَعْرِفُونَ مِن اَلْأَصْدِقَاءِ اَلْأَوْفِيَاءِ، وَالتَّعَامُل بِهُدُوءٍ مَعَ كُلِّ اَلْأَحْدَاثِ بِطَرَائِقِ اَلتَّسَامُحِ وَالتَّنَاسِي وَحَتَّى اَلتَّغَابِي، والتَأَنّي في مُجَادَلَة الآخَرينَ مَهَما كانَ الرأي صائِباً وصَحيحاً تارِكاً الإثْبَات لِعامِلِ الوَقتِ، وَجَاعِلاً التَّأَمّل في أَفْعَالِ اَلْآخَرِينَ لَا فِيمَا يَتَفَوَّهُونَ بِهِ مِنْ كَلَامٍ. ومِنْ أَجلِ راحَةِ البالِ لَا بُدَّ مِنْ التَوَجُّه بالتَّرْكيزِ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ حَوْلَ مَا فَاتَ مِنْ تَجارِب سَلْبيَّةٍ قاسيَةٍ وَمَريرَةٍ، بَل التَعلَّم مِنهَا وتَحليلها وتَجنَّب تِكرارها والتَعَلُّم مِنْ أخطَاءِ الآخَرينَ لأن العُمْرَ أَقْصَرُ مِمّا يَجِب لإرتِكابِ أيّ شَخصٍ كافّة الأَخطاءِ لِلتَعَلّمِ مِنها. وَكَذلِكَ عَدَم النَدَمعَلَى مَعْروفٍ مُنِحَ لِآخَرِينَ لَا يُقْدِّرُونَهُ، وَنَصائِحَ مِنْ القَلْبِ والضَّميرِ لِأنُاسٍ يَجْهَلُونَ مَقاصِدَها وَلَا يُدْرِكُونَ مَرَامِيها، وَلَا عَلَى مَشاعِرَ طَيِّبَةٍ وَأَفْعالٍ نَبيلَةٍ وَإِنْسانيَّةٍ لِمُحِبٍّ أَو مَعشُوقٍ مَهْما إِحْتَوَتْ مِنْ ذِكْرَياتٍ ألِيمَةٍ، وَلَا عَلى بَذْلٍ وعَطَاءٍ واِهْتِمَامٍ وَمُسايَرَةِ مَشاعِرَ لِمَنْ يَحْمِلُونَ قُلُوبًا جَدْباءَ قاسيَةً (فاللَّهَ لَا يُضيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ). ويَتَوَجَّبُ أَيضاً جَعل القلُوب تَنْبَضُ مانِحَةً الغُفرانَ لِمَنْ يُسيء، ومُبْتَعِدَةً عَن الحِقدِ والحَسَراتِ والكَراهِيَّة اللّواتي يُجْلِبنَ الشَقاءويُفقِدْنَ راحَة البَال. ويَبقى الشعُور بالرِضا والسَّعَادة، كما إنكِسارُ القَلْب والآلام، ثابِتاً في كافَّة الفِئاتِ العُمْرِيَّة.
أدعو الله مُخلِصاً أنْ يَمُنَّ عَلى الجَميعِ بالعُمْرِ المَديدِ مَقرُوناً بتَمامِ الصَحَّة والسَّلامَة وراحَة البَال وَرَغَد العَيْش، والتَحَلّيبالقَناعَة التَّامّة والصَبْر الجَميلِ حَتّى سَاعَة الرَحيلَ بِهدُوءٍ مَعَحُسُن الخاتِمَة.
صَلَاح يُوسُف الدهَش