مواويل جنوبية
عبدالسادة البصري
(( الدار ــ تفليش ــ للبيع .. ))
في عام 1980 عندما اشتعلت الحرب العراقية الايرانية ، ونزحنا هرباً من نيرانها تاركين بيتنا في أقصى جنوب القلب ، ظلّ أبي منذ لحظة خروجنا منه واجماً صامتاً لا يتكلم إلّا نادراً ، ولم تفارق السيجارة شفتيه حتى فارق الحياة بعد شهرين من نزوحنا قهراً وحسرةً على البيت ، الذي بناه من عرق جبينه وتعب العمر كله !
وذات يوم وأنا أسير في شوارع مدينتنا – البصرة – قرأتُ عبارةً كُتبت على أحد البيوت (( الدار تفليش للبيع )) فدهشتُ لكلمة ( تفليش) وما يعني بها صاحب الدار حينما كتبها . تساءلتُ فقيل لي :- إن الرجل خسر ماله في التجارة فلم يجد وسيلة إلا أن يبيع بيته ( تفصيخاً) ــ أي الشبابيك والأبواب وحديد ( الشيلمان ) والطابوق والأدوات الكهربائية وغيرها ، ثم الأرض ، ليعوّض بعض خسارته التي حتماً لن يعوّضها أبداً !
تذكّرت هاتين الحادثتين وأنا أقرأ وأسمع بعض التصريحات التي تقول إن الحكومة ارتأت أن تعرض أملاك الدولة في المزاد العلني . وهنا أتساءل : – هل للحكومة أملاك ، أم إن كل شيء حكومي هو ملك عام للشعب ؟!، فكيف ستبيعه الحكومة بعد أن خسر الشعب كل شيء عبر الموازنات الانفجارية التي لم تغير شيئاً ، بل نزلت بالناس إلى أسوأ حالات العوز والفقر والحرمان ، إضافة إلى النزوح والخراب والفساد الذي نخر كلّ شيء حتى الأشجار والنخيل وأصاب الماء بالملوحة والشحّة ، ونشر التصحّر في كل مكان ؟!
البيت هو الوطن الذي نحلم به ونسعى إليه كلّما اشتدّ بنا الحنين ، وهو الحضن الدافئ والآمن الذي لا بديل عنه أبداً . إذا عرضناه للبيع فمعنى هذا اننا نكون خارج دائرة الدفء والأمن والحياة الرغيدة .
علينا أن نفكّر بحلٍّ عاجلٍ لكل ما يُفسد حياتنا ويخرّب عيشنا وما سيجعلنا مشردين ، جائعين ، لا مأوى لنا ولا مأكل ولا مشرب .
الفساد الذي نخر أجسادنا وجسد الوطن قبل كل شيء ، علينا أن نقف ضدّه ونردعه ونبحث عن علاج ناجع كي لا يستفحل ويضيع كل شيء . فنقعد ملومين متحسرين نضرب كفاً بكف ونبكي على ملك مضاعٍ لم نستطع أن نحميه ونبنيه ونحافظ عليه !
وقبل أن نفكر ببيع ممتلكات الدولة التي هي ممتلكات عامة الناس ، علينا أن نجد الوسيلة المثلى للخروج من الأزمة ، وبشكلٍ يعطي لنا الحق في أن نقول كلمتنا للناس بأننا نبني وطناً يحلم به الجميع ، لا أن نجعل الناس يتحسّرون على بيوتهم وآمالهم التي ظلوا العمر كله يكدحون من أجلها .