د. مظهر محمد صالح
على يمين الشارع المسمى ستراند ستريت في العاصمة لندن حطت بي حافلتي بهدوء امام مدخل فندق شديد الكلاسيكية يذكرك بقرون انكلترا الماضية من حيث الطراز وقوة الرسوخ في عمق التاريخ البريطاني وامارات ولادة الثورة الصناعية ، ولكن تجد من الوهلة الاولى ان هذا الفندق يحمل الكثير من الالغاز والرمزيات حينما تتطلع الى الاعمدة التي شيد عليها . فبغض النظر عمن يستقبلك بأبتسامة هادئة في مدخله ممن يرتدي لباسا جميلا يعود تاريخه الى عصر الملكة فيكتوريا فأن الذي يستوقفك من هذا المكان شاهد مصنوع من البرونز تقول عباراته، هنا ولدت ملكتان من ملكات انكلترا وان سراً ما تخفيه بناية هذا النزل تحثك نفسك حالا في البحث عنه. فاللوحة البرونزية التي نوهت عنها آنفاً والتي نصبت على يسار الجناح الخارجي للفندق ، تحكي تاريخ تطور اسرار الملكية في انكلترا وعلى النحو الاتي :
في هذا المكان من العام 1640 تم انشاء منزل اسمه (روجستر) حيث عاش فيه ماركيز مقاطعة روجستر والمسمى (ادوارد الثاني). وفي منتصف الثالث من ايلول من العام1660 تزوجت سراً ( آن هايد ) ابنة احد النبلاء البريطانيين المسمى (آيرل كلارندون) من دوق مدينة يورك الانكليزية والذي سمي فيما بعد بـ(جيمس الثاني) وولدت له زوجته التي تزوجها سرا ابنتين اصبحتا ملكتين لانكلترا وهما الملكة ( ماري ) والملكة (آن) !
قلت في نفسي قبل ان ادخل ذلك الفندق ، فندق الاسرار! ان زواجا سريا ارستقراطيا قد ولدَ في هذا المكان ملكتين من ملكات انكلترا ، ولكن ماذا سيكون عليه الامر لو كان الزواج علنيا ! لا ادري ربما كانت النتائج معاكسة والمعطيات التاريخية مختلفة!
دخلت غرفة نومي في ذلك المساء في اوائل ربيع عام 2011 وتطلعت عيناي في صورة فوتوغرافية باللونين الابيض والاسود كانت منصوبة على الجدار الايسر من غرفتي وكانت للجنرال الفرنسي الراحل (شارل ديغول) واخذني الفضول لاقرأ ماذا تخبيء السطور المكتوبة تحت الصورة اذ وجدت تعليقا مفاده : هنا في هذه الغرفة من هذا الفندق عاش الجنرال شارل ديغول خلال الحرب العالمية الثانية وكان احد رواد هذا الفندق ، وقد عقد العديد من الفعاليات واللقاءات الخاصة في هذا المكان لدعم ومؤازرة قوات فرنسا الحرة.
رجعت ذاكرتي حالا لتحاصرني بين ولادة ملكتين من ملكات انكلترا وبين ولادة الجمهورية الفرنسية الخامسة برئاسة الجنرال ديغول ، وقلت في سري ماذا يخفي فندق الاسرار طوال هذه القرون ، وعدت الى صورة الجنرال ديغول ثانية وتذكرت انه الرجل الذي قاد مقاومة بلاده في الحرب العالمية الثانية وترأس حكومة فرنسا الحرة في 18 كانون الثاني يناير 1940 . ولم يتوقف وهو في لندن ومن هذا المكان من اطلاق الشعارات التي كانت تلهب قلوب الفرنسيين وتدفعهم الى مقاومة الاحتلال الالماني النازي وان من اشهر نداءاته التي اطلقها من لندن هي : (ايها الفرنسيون لقد خسرنا معركة ولكننا لم نخسر الحرب وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب من نير الاحتلال الجاثم على صدره) .
غادرت فندقي/ سافوي في اليوم التالي مع وفد رسمي عراقي للالتقاء بمجموعة محامين دوليين والمؤسسات المالية المكلفة بمتابعة المديونية الخارجية للعراق والتسويات الحاصلة فيها بموجب اتفاقية نادي باريس الموقعة في العام 2004 حيث انصبت المشاورات على الديون السيادية المترتبة على العراق من خارج دول ذلك النادي . وكانت الجزائر من اكثر البلدان حيرة في تفسير ديونها الخارجية المترتبة على بلدنا لان اغلبها كانت مساعدات او منح من الشعب الجزائري الى الشعب العراقي ابان الحصار . وحسن ما فعلت الجزائر عندما اتخذت قرارا شجاعا بالغاء ديونها على العراق كافة وتمنيت ان يفعلها بقية العرب من ابناء جلدتنا !
ذكرتني قوة القرار الجزائري الشجاع في الغاء ديونها على العراق كافة برمزية فندق الاسرار عندما اعلن الجنرال ديغول نفسه رئيس الجمهورية الفرنسية (الجمهورية الخامسة) استقلال الجزائر عام 1962 ومنح الاستقلال التام لها وانهاء حقبة الاستعمار .
و لم يفارقني فندق الاسرار الذي انتقل بذاكرتي هذه المرة من شواطئ بحرا المانش والشمال غربا الى شواطئ المتوسط شرقا .
عندما زرت العاصمة الجزائرية في منتصف تسعينيات القرن الماضي لاكون ضيفا في فندق تعاظمت هو الاخر اسراره لاكون جليسا في قاعة اسمها قاعة السفراء في ذلك الفندق الذي ارتبط فيه البناء الحديث بالبناء القديم ، كي اكتشف سرا اخر في هذا المكان المطل على ساحل البحر الابيض المتوسط الجنوبي .. انه فندق الاسرار.. انه فندق الجزائر!
حدثني زميلي الجزائري قائلا انك تجلس الان في المكان الذي جلس فيه الجنرال ( آيزنهاور ) الرئيس الامريكي الاسبق الذي كان يتولى قيادة قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية واتخذ من هذا المكان مقرا للقيادة العامة لجيوش الحلفاء في 7 حزيران 1943 عندما كان الفندق يسمى بفندق سانت جورج .
لقد اقيم الفندق على انقاض قصر اسباني/عثماني في العام 1450 ميلادية ابان الصراع بين الامبراطوريتين الاخيرتين على الجزائر للاستيلاء عليها . كما علمت من قراءاتي ان مؤتمرا انعقد بداخل الفندق ضم ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وايزنهاور نفسه بكونه قائد اركان جيوش الحلفاء ، وبعد ايام تناول وجبة غذاء بالفندق نفسه الملك جورج الخامس ملك بريطانيا واحد ابناء الملك ادوارد السابع .
لقد ارخ فندق الجزائر.. فندق الاسرار ، لمشاهير السياسة والفن وصانعي الحروب وعظماء التاريخ ، اذ نام فيه الثائر ارنستو جيفارا ونزل فيه الزعيم الافريقي نيلسون مانديلا عندما كان طالبا يدرس في جامعة الجزائر ونام في غرفه الفنان شارلي شابلن والزعيم الراحل جمال عبد الناصر وفيديل كاسترو وغيرهم ..
في الخامس من حزيران من العام 1944 وفي قاعة السفراء نفسها التي مررنا بها في الطابق الارضي من فندق الاسرار كما حدثني صاحبي ، اجتمع قادة الحلفاء ثانية برئاسة الجنرال ايزنهاور لتحديد موعد الانزال البحري في نورماندي والتي عدت من اكبر عمليات الانزال البرمائي في التاريخ العسكري الحديث ، ساهمت فيه وحدات جوية وبرية مشتركة قادها ايزنهاور نفسه والتي على اثرها استسلمت القوات الالمانية التي كانت تحتل فرنسا وتوغل الحلفاء الى غابة المانيا وسقطت برلين .
من صفوة الكلام ، فمثلما تحررت فرنسا تحررت الجزائر ومثلما الغت دول نادي باريس ديونها على العراق بنسبة 80% او اكثر الغت الجزائر ديونها على العراق بنسبة 100% انها اسرار الفنادق التي تمتلك قوة الحب والحرب والسلام.