ألعاب الفنان طالب حسين اللونية

ألعاب الفنان طالب حسين اللونية

 

شاكر الانباري

من خلال متابعتي، شبه اليومية، لرسومات الفنان طالب حسين على الفيسبوك، تبادر لي أنه يرسم بدمه، بروحه، بكامل خلاياجسده، رغم أنني لا أعرف هل يرسم بالألوان المائية أم الإكليرك أم الزيت. ولا أعرف أحجام تلك اللوحات، وقد تكون مرسومةعلى صفائح ورقية بيضاء، تصلح للاستعمال السريع، والجاهز، تحت شغف حارق لليد والخيال. إصرار غريب على مواصلةالتلوين، وابتكار الشخوص، والحركات، والمشاهد الطبيعية، وكأن العين أمام رقصات حادة، ملونة، ذات وجد روحي وانخطافصوفي، أو وسط عاصفة تمتد في الطبيعة المتوحشة.

لوحات توحي بكل ما يخطر على ذهن المشاهد: أهوار العراق، النخيل البصري، حقول القمح في ليلة عاصفة، راقصة الباليه،الشارع المديني المكتظ بالمارة، الطيور، المظاهرة العارمة ضد السلطة، قرون الجاموس تحت البردي، الشفة المطبقة لفتاة فيحانة، أي كل ما تحتويه ذاكرة عاشت العقود الأخيرة من الزمن، وهي تتنقل بين المدن، والصحاري، والأنهار، وحقول القصب،وظلال العمارات العملاقة في الحاضرات المدينية لما بعد الحداثة. قد لا يكون للّوحات تلك نكهة عراقية خالصة، باعتبار أنالفنان طالب حسين من مدينة الناصرية العراقية، لكن لوحات عديدة يستطيع العراقيون تمييزها، بلمس المشهد أو تذكر رائحةالعروق النهرية أو تسلق بيت طيني آيل للسقوط. قبل فترة كتبت سطورا قليلة عن واحدة من لوحاته، فقلت للقارئ تخيّل نفسكعلى قارب صغير وسطأهوار العراق، في صباح ربيعي، وأنت محاط بالقصب، والبردي، تصيد السمك. وحيدا إلا منصحبة طيور الإوز، وحدائق المياه ووجوه النساء والصيادين المتعبة.

كانت تلك اللوحة يمكن أن تكونهايكو بصريإن صحت التسمية. ويمكن أن تكون قطعة من الشعر الملون بأحاسيس روحشفيفة تعيش عزلتها. وقد يصح هذا الوصف على أغلب اللوحات. فعلا معظم اللوحات التي رأيتها تحمل بصمة الهايكو، نمطاللقطة الشعرية الحاملة لمفارقة جمالية أو حركة مفاجئة تذهب بسكون المشهد المعروض أمام البصر. ويمكن وضع تلكالتهيؤات المشهدية في خانة رسومات ما بعد الحداثة، أو الخلطة الحضارية للقرن الحادي والعشرين. وهو ما نعيشه بشراسةوعمق أينما أدرنا وجوهنا. فلم تعد جذور الفرد تنتمي لتربة واحدة، بل هي تمتد على مساحة الكرة الأرضية. قبل أن أتابعمنشورات طالب حسين على صفحته الفيسبوكية، تذكرت أنني رأيته أكثر من مرة في مقهىالبرلمانالواقع في شارعالرشيد، ليس بعيدا عن سوق الكتب المعروف بالمتنبي. قبل أربعين سنة تقريبا.

كان صديقا لأخي الكبير علي، وبدأ علي شاعرا واعدا، لكن صروف الوضع العراقي الفائر شاءت خلاف ذلك، واعتقد أنهماكانا يدرسان سوية في كلية الآداب. كان وجه طالب يوحي بالتمرد منذ تلك السنين، وامتد ذلك التمرد الفني إلى رسوماته تلك،فهي تضرب القواعد الفنية، والمشهدية الساكنة، والمألوف في الفن التشكيلي. ومعيشة الاغتراب الأوربي زادته، في قناعتي،وبعد التجربة، تمردا على المألوف، وعمّقت لديه مشاعر الخصوصية فنيا. دأبنا في نهاية السبعينيات على الجلوس فيالبرلمان، مقهى المثقفين، ونحن نحدق بالجيل السابق علينا من المثقفين من أمثال: موسى كريدي، وخضير عبد الأمير،وفوزي كريم، وعبد الستار ناصر وأحمد خلف، وأحيانا عبد الأمير الحصيري شاعر العمود وخليفة الجواهري كما كان يطمحوقتها، بملابسه الفوضوية، ومشيته المرتبكة، ووجهه العريض المتعتع من السكر. والغريب أن أخي علي سرعان ما انتقل إلىالناصرية، مدينة طالب حسين، مدرسا للغة العربية، وتزوج من الناصرية امرأة من زميلاته، وكاد أن يستقر هناك لولا ظروفالبلد في تلك الفترة البائسة، وهو اليوم يعيش في مدينة الرمادي مقعدا من المرض.

تلك المفارقات استعيدها كلما تأملت في لوحة من لوحات الفنان طالب حسين. وأسأل روحي عن هذه التجربة اللونية الغريبة،والمبدعة، ولماذا لا يتم عرضها في صالة فنية في مدينة الناصرية أو في بغداد، خاصة وأن هكذا تجارب غريبة، ونافرة عنالسائد العام، تلخص بوضوح تجربة شريحة واسعة من المثقفين والفنانين المغتربين الذين اكتسبوا دماء ثقافية جديدة تضافإلى موروثنا العراقي. وهي في ذات الوقت تشكل دعما اجتماعيا، وحضاريا، للتيار المدني الذي يناضل، يوميا، ضد عسكرةالمجتمع، والفكر الغيبي، والانغلاق، والتلوث الجمالي، عدا عن ترسيخها للهوية التاريخية العميقة للعراق المدني.

(Visited 15 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *