طارق إمام – كاتب روائي مصري
غرف القباطنة لا ترى البحر. هى غرف واطئة تطل دوماً على يابسة ممتدة، فى مدينة داخلية مزدحمة أو على مشارف صحراء لا تنتظر إلا زحف غزاة بريين، حيث لا شمس تغرق فى البحر ولا حبيبة يسحبها الموج.. لا نوافذ منداة تتحول عبرها الحياة لحلم يقظة.
أسِرَّة واطئة، تذكارات بامتداد الجدران، رسوم بالحبر لمراكب ورقية فى هوامش الكتب،وفى صفحات الألبومات صور فوتوغرافية تخص دائماً أشخاصاً آخرين.
يعرف القباطنة جيداً لمعة الفلاش، يعرفون صدمة الضوء التى تنسحب بعدها الوجوه فى مربعات الورق المقوَّى. يعرفون عمق النَفَس الأخير الذى يدخر كل هواء العالم قبل أن يستسلم للماء.
لا يملك القباطنة إلا حيوات قليلة عاشوها بالفعل، وحفنة حيوات محتملة هى أعمارهم الحقيقية. يتعرفون بالكاد على ذكرياتهم، ويعبرون جثث الشحاذين على أرصفة تؤمن أقدامهم من دوار البر.. لذا لا تزعجهم رائحة الموت إلا بقدر ما تذكرهم بأن ثمة روائح أخرى لا زالت الحياة تدخرها لهم.
القباطنة يكرهون العواصم، يتوهون فى المطارات.. تؤرقهم الشمس التى تعرى البنايات وتحول الأشخاص لأشباح معلنة.
العدو الوحيد للقبطان ليس القراصنة. تلك هى خدعة التاريخ التى أكدَّتها أكاذيب جدات ملولات لإجبار أحفاد مشاكسين على نوم سريع. العدو الوحيد لأى قبطان هو قبطان مثله.. حيث يعرف كل قبطان أنه لا يقابل زميلاً إلا ليتوجهان إلى المقبرة ذاتها عبر طريقين مختلفين.
ليس للقبطان أبداً لحية لوَّنها دخان غليونه. القبطان رجل حليق لا يدخن، ولا يعنيه أن يدافع عن هذا أمام جدات مأفونات يخرفن لينام أطفال حرونون. لكن للقباطنة حدقات زجاجية ترى نصف العالم وترجيْ النصف الآخر للموت، تعرف كل الألوان عدا الأزرق.
يدخلون الحانات كثيراً. يقرأون القصص المصورة ويتهامسون مع أول امرأة تبتسم لهم.. ولكنهم فى النهاية يتركون لغرفهم كل هذا، ويغادرون عراة لدى أول تلويحة وداع، شرط أن تتحقق ميتاتهم بأى طريقة أخرى سوى الغرق.