نعمه العبادي
الحضارة فعل تراكمي يتجاوز حدود الافراد، ويشكل بمجمله صورة من الوعي المتقدم بالأولويات وفقا (لقيمتها الاخلاقية)، وامتلاك للمناهج والادوات التي تحقق هذه الاولويات، عبر نشاط تشاركي، يتكامل فيه الافراد بإتجاه (بوصلة حق) تضبط هذا النشاط، وتكرس معطياته في تجليات (سلوك رقي)، يعتقد بعمق ب (خلافة الانسان) على الارض، ويعد (الانسان) محوره الاساس، إذ تباين نظرتنا للحضارة مجمل التصورات السابقة للحضارة التي تعتمد (العمران) كمرتكز لموقفها، وفي مقدمتها الرؤية الخلدونية التي تتحدث عن (دورة العمران).
ينخفض الجدل حول التشيع (الشرعية والدور) في مساريه (الجواني والبراني) إلى حدود البحث في قوة الادلة الداعمة للموقف العقائدي لهذا الاتجاه، ومدى حضور روح الاسلام فيه، وشرعية الايمان به في ظل حساب الامور وفق منطق (الاكثرية والاقلية)، ويتدنى النقاش (الجواني) إلى اشكالية التمثيل الاجتهادي والمراسم الطقوسية، وهو مستوى من الانخفاض يتحرك وفقا لحسابات (الجغرافية والديمغرافية) التي يشكلها الوجود الشيعي (واقعا)، الامر، الذي خلق حالة اهتزاز وانكسار وضعف ثقة (داخليا)، ومشروعية مختلقة للتهميش والتشكيك، بل وحتى التعسف بالحكم والمعاملة الظالمة (خارجيا)، وما بين هذا الانكسار النفسي والتراجع التراتبي (من داخل التشيع)، وذاك التعسف والتهميش والنظرة الدونية الموجهة (من خارج التشيع)، فقدت الامة فرصة (الفعل الحضاري) المؤثر، الذي تنطويه عليه الرؤية الشيعية بوصفها صورة إنموذجية للخلافة الانسانية الواعية.
يمثل (التشيع) كمنهج للتحقق وتحقيق مظاهر الاسماء الحسنى والصفات الالهية العليا عبر ممارسة إيمانية، تتقوم بالحب، وتنتظم على العدل، أنضج وأكمل مسيرة التخطيط الالهي للتكامل الايماني عبر تاريخ البشرية، فالاسلام هو الشرعة الخالدة التي جاءت تتويجا للتناظر ما بين مسار الشرائع والموقف الانساني المعرفي، حيث اعلنت ايمانها المطلق بالمسيرة الايمانية النبوية الحقة (آمن الرسول بما انزله إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، وهذا الايمان ينتظم على خط الوحدانية وشرفية الانسان كخليفة لله في الارض، وكان التشيع المجسد عبر خط أهل البيت عليهم السلام الصورة المتسقة مع (الدور والموقف) الاسلامي من (الارض والسماء).
دونت القراءات (الاستقرائية والتحليلية) لمفهوم الحضارة (بمختلف مشاربها) جملة مقومات، ينطلق معظمها من طبيعة تلك القراءة للحضارة والتي جعلت محورها الاساس (العمران)، فيما تنفرد (رؤيتنا) بتحديد مقومات مختلفة، تنطلق من موقفنا الحضاري القائم على مركزية (الانسان).
يعد (العدل) المقوم الاساس للحضارة، فلا يمكن الحديث عن انجاز حضاري قائم على اساس الظلم والتعسف والاضطهاد والتسلط على الضعفاء والتغالب على الملكيات، وهذا العدل (مطلقا) لا نسبيا كما تخاتل فيه معظم التوجهات، لانه يرتبط بالله المطلق، فلا يتغير بتكيفات زمنية ومكانية او تخريجات حدثية، لذا حضر مفهومي (العدل والظلم) بكثافة في النص القرآني والنبوي وفي تراث اهل البيت عليهم السلام، ومن هنا لا حديث عن حضارات قائمة على الظلم مهما كانت المعطيات العمرانية والآثار المادية لها، إذ يبقى وصفها الحقيقي هي نحو من التوسع والتغول والاستيلاء على الموارد والثروات وتسخير طبقي تخادمي، يتفرد فيه الاقوياء ويضيع فيه الضعفاء.
يعد (العدل) الاصل الاول والاهم الذي يتفرد فيه التشيع، فيعد غالبية المسلمين اصول الدين ب (التوحيد والنبوة والميعاد)، فيما يعدها التشيع بطريقة مختلفة (التوحيد والعدل والنبوة والامامة والميعاد)، فمع ان العدل من الصفات الالهية العليا التي تدخل في اطار الوحدانية الحقة، إلا ان اهميته كأس رئيس للايمان الحق ومصدر ومبعث التسليم المطلق، اقتضى ان يكون اصلا منفردا، وقد ارتبط العدل بمنهج اهل البيت عليهم السلام بشكل مكثف حتى بات الحالة التي يتفق عليها حتى اعداء التشيع عند حديثهم عن سيرة اهل البيت وفي مقدمتهم الامام علي عليه السلام الذي هو على حد تعبير جورج جرداق (صوت العدالة الانسانية).
ان العدل بمعناه الواسع يوفر شرطا لازما لكل صور المساواة، ويقف في وجه كل صور التمييز الطبقي والعرقي والاجتماعي والاقتصادي، ويمنح فرص متساوية للمشاركة، ويرتب وضعية متوازنة لمنظومة الحقوق والواجبات، وبذلك، يؤمن، بيئة إنموذجية لتراكم حضاري حقيقي قائم على التصاعد المعرفي بإتجاه درجات متوالية من تحققات الانسانية المستخلفة.
يقدم التشيع صيغة مختلفة عن الايمان مركبة او متمازجة اصطلح عليها ب (الايمان/الحب)، فالتشيع يطرح المسيرة الايمانية إلى الله جل وعلا بوصفها رحلة حب نحو الجمال والكمال، وحركة لا متناهية من التحققات بمظاهر الجمال والكمال الرباني، فالله في المنظور الشعي الامامي معشوق مطلق لتفرده بأعلى مراتب الكمال والجمال، ويأتي الايمان كحالة انجذاب طوعية ينشطها ويجليها الوعي العميق بالصفات الالهية الكاملة التي دارت كل حركة النبي واهل البيت صلوات الله عليهم حولها، فهذا (الايمان/الحب) يتحرك بمسارين عمودي نحو الكدح الانساني للتحقق بالمزيد من الصفات والاسماء الالهية (بنسخة انسانية)، وبخط افقي، يترابط فيه المجتمع المؤمن حول وحدة الهدف والمصير، وتتضايف فيه مسيرة الافراد بعضها للبعض الاخر، بخلاف منهج التنافس والاحتكار والتنافي في المناهج الحضارية الاخرى.
ينتزع (الايمان/الحب) روح الكراهية والانانيات ورغبة الاستحواذ ونزعات التعالي والعدوانية، ويستبدلها، بالطمأنينة والامان والثقة والرحمة والانصاف وحب الخير للاخرين، فيتكامل هذا المقوم مع مقوم العدل من خلال نسق حضاري مختلف.
تمثل الارادة محور النشاط الحضاري التراكمي القاصد، وتبتني الارادة الحضارية على العقل لا بوصفه اداة للجربزة والشيطنة والتغالب، بل بوصفه محل الكمال والجمال، ومركز البصيرة التي تستبين حقائق الاشياء على وفق منهج صحيح، فالعقل والحضارة متلازمان تلازم وجودي لا يمكن التفكيك بينهما، وعند النظر في التشيع يظهر جليا مكانة العقل بوصفه محور التكليف ومقوم الدور واداة التكامل والبصيرة، ومع ان العاطفة لها موقعها العظيم في منهج اهل البيت عليهم السلام إلا ان هذه العاطفة مشروطة بالعقل ومحكومة به.
لقد اعلى التشيع شأن التفكير والتأمل وحارب الخرافة والزيف، وابتنت كل العقيدة الشيعية على العقل بوصفه الاداة التي توصلنا الى مرادات الشرع، وقد تميز هذا الوعي بأهمية العقل عن غيره من دعوات العقلانية التي وضعت العقل الانساني بقصوره ومحدويته كمطلق يعبد، وكنهائي يقصد، وكفيصل لا نزاع او خلاف حول احكامه، فتحكمت الاهواء، وسادت الاشتباهات، وتغطرس الانسان فرفع نفسه إلهاً ورباً.
العقلانية الشيعية تنفتح على العلم، وتمجد المعرفة بوصفها ساحة النشاط الانساني المشروع، وتحجم من التطرف والمغالاة، وتهذب من الشطط والانحراف، وتضع الاشياء موضعها، فتعطي للفعل الحضاري ميزة التوازن والاعتدال، والقدرة على الاتساق والتناغم، وامكانية الدوام والثبات والتحقق الايجابي من خلال ربط العقل بالمطلق الاعلى.
ان الصورة الحضارية القائمة على الرؤية الشيعية ليست وريثة لاي مسميات حضارية اخرى، ولا بديلا عنها، وليست في عرض اية حضارات معلنة او مدعاة، وغير معنية بأي مفاهيم تضليلية مثل نهاية التاريخ وصدام الحضارات وحتى دورة العمران، كما، ان فيها، ممكنات الخلود والبقاء التي هي ذاتها ممكنات خلود وبقاء الإسلام، كما، انها ليست اتجاه مذهبي، او طريقة اجتهادية، بل هي حقيقة كونية واقعية موقوف تحققها على التعاطي المسؤول مع مقوماتها (كممكنات وكمسؤوليات)، تتيح لكل البشرية ان تنخرط فيها وتشتغل عليها بغض النظر عن التعنونات الضيقة، ومما لا شك فيه، ان هذه المسؤولية تقع بدرجة مضاعفة على ابناء التشيع والمؤمنين به.
المقومات الحضارية في الرؤية الشيعية.. (منطلقات مختلفة) نعمة العبادي
(Visited 29 times, 1 visits today)