الورقة المختومة الجزء ١٤ / احمد مشتت

الورقة المختومة الجزء ١٤ / احمد مشتت

د. احمد مشتت
عدت الى بغداد الجديدة منهكا. كانت احداث اليوم المتشابكة تمر امام عيني وكانها حلم تقطعه كوابيس.
حتى جسدي كان ينوء من تعب حل عليه فجاة بعد هذا الجري المتواصل بين دائرة الجوازات والمستشفى. هذا الجسد الذي حوله الخوف المنتشر في كل زاوية تحرك فيها الى خرقة بالية.
وجدت د. سلام بانتظاري قرب دائرة البريد في سيارة ابيه.
كان يبدو اهدأ مما تركته قبل يوم وهو يحاول ان يستوعب الكارثة التي حلت بعماد اخيه.
-شنو الاخبار؟
سالته وانا ارمي جسدي المتهالك على المقعد الامامي. كنت اقصد بالطبع هل عرفوا شيئا عن عماد.
-بدائرة الاستخبارات العسكرية. بس بعده حي يرزق.
خلصت اشغالك؟
كان سؤاله اشارة الى انه لايريد الخوض في قصة عماد اكثر مما قال.
( سلام الجواز خلص. ولميت كل اغراضي من المستشفى.)
ورفعت الحقيبة شاهدا على ماقلت.
واضفت:
-اليوم مستشفى الكاظمية كان ساحة حرب مو مستشفى.
لم ادخل في تفاصيل كنت اريد ان امحوها من ذاكرتي.
فبادر بالقول:
-باچر نروح نشتري البطايق وندفع رسم السفر.
كان سلام يتحدث بثقة عالية الان وبتصميم اثار حماستي وانتشلني من مستنقع البؤس الذي رمتني فيه احداث المستشفى الاخيرة. ثم اضاف:
-خلص هذا البلد بعد ماينعاش بيه
استمر سلام بتعزيز قناعات كنت قد وصلت اليها منذ صعدت الباص من كراج النهضة متجها الى العمارة في اول التحاق لي بجبهة الحرب شتاء عام ١٩٨٧، المقعد الوحيد الشاغر الذي احتله كياني القلق كان يقع تحت ثقب في سقف الباص يمرر قطرات المطر بتعاقب شديد البطء كأنني في غرفة للتعذيب. بين هذا وبين انفاس الجنود المضمخة بوداع الامهات فقدت ارادتي على الحياة واسقط في يدي السؤال المصيري الهش
-لماذا انا هنا؟
سلام اختصر الاجابات التي هربت منا جميعا
-هذا البلد مانگدر نعيش بيه بعد. ثم قال:
-نحجز السفر على يوم ٢٧ .
كنا يومها في شهر تشرين الثاني عام ١٩٩٤. واضاف منبها:
-لاتاخذ اي اوراق او شهادات طبية ولا دفتر الشعر مالتك ولا اي شي بيه حروف وكلمات ماعدا الجواز. لاتنس تطلع هوية نقابة الاطباء من محفظتك وتتركها.
يعني بس الملابس والاساسيات الاخرى . الله يستر وما يصعد الباص احد عالجناه قبل ويعرفنا.
كان سلام يشرح خطة السفر ولم يترك اي تفصيل مهم لم يذكره لي. قال
-ان رجال الامن بدائرة الجوازات ارحم من اللي في طريبيل .طريبيل هي المحطة الحدودية بين العراق والاردن على الطريق البري الذي يربط البلدين.
كان تحذير سلام الاخير هذا هو ملخص الرحلة المقبلة.
-انت ترجمت شهادة البورد؟
قال وهو يسألني بعد خطبته الموجزة تلك.
اجبته:
-المفروض اللي استلمها غدا من سكرتيرة المجلس العراقي للاختصاصات الطبية بالكلية
كنت اعرف انني لااستطيع ان احمل معي اية وثائق طبية او شهادات. ولهذا تركت شهاداتي مع صديق لي سيهربها مع احد سواق الشاحنات الى الاردن.
اما مجموعتي الشعرية الاولى ( افتتاحية المهرج) فقد خرجت كاملة في عام ١٩٩١ مع صديقتي طبيبة الاسنان الدكتورة اسيل مع رحيل عائلتها من العراق. ولكن كان من الاساسي اولا ان نعيد صياغة القصائد تحسبا لاكتشافها من قبل السلطة الامنية التي تقلقها الحروف اكثر من المسدسات.
مع الدكتورة اسيل وشقيقتها الصغرى واخوها علي امضينا اسبوعا كاملا نعيد كتابة القصائد بتشفير الكلمات التي تهدد سلطة الخراب.
( بين سقفَين افتتحتُ بغداد جنةً للمضربين عن الوقت
لم يفهموا كيف تُباد المنازل في حبر الجريدة)
( هنا الارامل تاريخ المكان)
( ملح الطريق خبأه القوميون منذ عام ١٩٦٣)
هذه الابيات من قصيدة افتتاحية المهرج التي كان علينا ان نغيرها بالكامل لدفن معانيها. تلك القصيدة اخذت وقتا طويلا لان كل بيت فيها هو توثيق للعراق المنهك والمسحوق بدبابات العسكر.
مَن جاء من الأقاصي سيهرم
لكنه سيرسم في الشيخوخة
مذبحةً
ويُسمِّي البلاد نظيفةً ( من قصيدة في عامه القاسي بخطاب مباشر عن صدام حسين)
استبدلنا كل اشارة عن السيد الرئيس بكلمة جدي مثلا.
الدبابات في قصيدة سارسم الوطن على نظارتيك استبدلت بكلمة الفراشات
الجيش اصبحت مدرسة
الدولة زهرة
الوطن الشمس
بغداد الوحش

وهكذا كان يجب تشفير كل شئ. اصبح الديوان في نهاية المطاف كلمات متقاطعة لو وقعت بيد رجل امن لكان رماه في اقرب سلة للمهملات ممتعضا من صعوبة حلها.
حفظت أُلى شقيقة الدكتورة اسيل كل مصطلحات القاموس المشفر ، عن ظهر قلب، واعادت كتابة الديوان باكمله بلغته الاصلية بعد وصول العائلة الى السويد.
اذن ساسافر وحياتي على كفي وليس في جيوبي وحقيبتي اية ادلة اتهام. وبدانا انا وسلام نتهيا لمواجهة طاقم التفتيش في طريبيل التي سندخلها كرجال اعمال مرموقين حسبما هو مثبت في جوازات السفر التي كانت شريكنا الاساسي في خطة خداع الدولة البوليسية الاقوى في العالم.
يتبع

(Visited 40 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *