د. مظهر محمد صالح
توقفت عجلات قطار جنوب العراق في محطة كانت تسمى غرب بغداد ذلك في ضحى يومصيفي ساخن غادره الجميع من فورهم، بعد ان قضيت ليلة صارخة ظلت ايقاعات عجلاتقطارها لم تهدء حتى حطت الشمس اوزارها ومدت اذرع شروقها وهرب الظلام في جوفالسماء وتشتت الاصوات تحت ضربات خيوط الطقس وحرارته.اسعدني الحظ في مطلعستينيات القرن الماضي زيارة العاصمة السومرية في جنوب بلادي، وكانت عودتي تتطلبان اقضي ليلة كاملة في قطار الجنوب الصاعد الذي ازدحم يومها براكبي الدرجة الثالثةكان اغلبهم من صفوف الطبقة الوسطى او من محيطها وحافاتها ، واخذت مقعدي بعد اناصطف الى جانبي ارجلي وعاء متوسط الحجم صنع من خوص سعف النخيل امتلاءباسماك راقية كانت هدية نهاية سياحتي الجنوبية. وببن فضول الغير وحب الاستطلاعظلت لدغات البعض من الراكبين وفضولهم التلقائي تساءل الليل كله عن نوع السمك وثمنهومكان اصطياده الذي ضمه وعاء خوص من سعف نخيل الجنوب . اذ اخذت الجدالاتتشتد بين الراكبين انفسهم وهم يتسورون موسوعة اسماك البلاد (فصائل واصنافومواسم) وحسب اهوائهم ..وصدورهم تجيش وقت ذاك بآمال غامضة عن مقاصد وجهتهمالى بغداد مع القليل جدا من السياسة ، وانا مازلت متمسكًا “ًبوعاء الخوص” خوفا منضياعه بين اهواء الراكبين وتخبطاتهم .ولم تهزمني لدغة الغير بين مستخف من وعاءالخوص او من يريد ان يقضي الوقت سراعاً بالحديث طوالاً عن عن موضوع الاسماك فيعالم اللاشيء، ولاسيما بعد ان رمقني احدهم فجاةً بنظرات مستطلعة، فمثلت امامها بادبحتى تخلى الركود في ماء وجهه دونما حراك ثم رفع يده متراجعاً عن وعاء الخوص خجلا.وعلى الرغم من هشاشة الجو لكثرة من مد انفه في وعاء الخوص نفسه للتعرف على نوعالسمك ،فلم تفقدني عزيمتي في رحلة القطار تلك من التمسك بالوعاء الذي صنع من نخيلالجنوب بقوة ومتانة ومهارة العقل سومري نفسه. وانقضى الليل كله وقلبي حذراً ولم يرىفي واقع الامر الا الولاء في الحفاظ على الصيد نقياً في وعائه النباتي السومري الصنع . ولا شك بان دفاعي عن “وعاء الخوص” حمل في نفسي الرضا والاعجاب كي يصل الصيدالمائي الى بيتنا بسلام.
بين النوم واليقظة تجسدت الظلمة في نفسي طوال الليل كانما بحر لجي لارى فيه كائناتتحيط بوعاء الخوص الذي مصدره سعف النخيل السومري تتهامس متبادلة افكار الصيدفي اهوار الجنوب والاشارة الى اداة صيد وحرب حذرة كان اسمها (( الفالة)) لتهزهمسعادة القول والجميع يستقبل حقائق الحياة في ليلة لم تبرأ من اتربة حمراء ضربتاطناب عواصفها سرعات قطارنا الذي امسك الارض متسلقاً اعالي الرافدين صعودا .كانتليلة غريبة ظلماء لم يشرق فيها شي سوى ضوء( طيب الرائحة) ذلك كلما اقترب المسير مناطراف بغداد لتنهال على انفاسنا فيوضات السرور. اذ بدات الاعين السومرية تسرقالنظرات صوب احاديثي الشخصية التي ميزتها اللهجة البغدادية العريقة التي رنتكلماتها برشاقة آسرة جل الراكبين من جنوب بلادي .
غادرنا قطارنا واستقليت الحافلة الحمراء ذات الطابقين وانا في طريقي الى بيتنا في قلببغداد ، ومازال وعاء السمك يلازمني ويتقلب بين يدي شمالاً ويمينا..!هنا جلس الىجانبي في الحافلة رجل بغدادي اثاره فضول” وعاء الخوص” وبالطريقة البغدادية هذهالمرة…!! ودار بيني وبينه حديث عن الوعاء ومصدره ولم افصح في حديثي عن اي توافقفي الراي في موضوع نوع الاسماك الذي
بقيت اخفيه بحذر لافتقار الثقة المتبادلة.هنا سالني الرجل الذي جلس الى جانبي فيالحافلة بعد ان علم ان وعاء الخوص هو صناعة سومرية جلبتها معي من جنوب العراق….هل انت من بغداد ؟ اجبته من فوري بنعم ….؟ ثم تساءل عن هذا الحمل الثقيل المصنوعمن خوص النخيل؟ فاجبته انه (( زنبيل )) فية (( سمك))… ! هنا دفعت ثمن (بغددتي ) فقال لي انت لست من بغداد ايها الشاب … فبغداد تتعاطى بلفظة عنوانها (( الگوشر)) وليس (( الزمبيل)) !!!ثم رمقني الرجل بنظرة حادة كادت ان تسلبني هويتي البغداديةلادفع ثمن اختيار مفردتي العربية وانكسار هويتي التي استبدلتها (بالزنبيل ) الحجازيةبدلاً من ( الگوشر) البغدادية.
تحولت وانا اغادر حافلتي الى تمثال مغترب بين انظار ذلك البغدادي المتعجرف والمتعصبلمفردة (( الگوشر)) بدلا من ( الزنبيل) حتى شعرت بنظرته تجري فزعاً في دمي وتتردد الماًفي انفاسي.
علمت من يومها ان المحن تطالبنا بالتماس اليقين، وان والدي الذي استقبلني بشوق هولوحده من يتجاوز الهويات الفرعية كلها وذهب يسالني عن رحلتي لجنوب العراق وكرماهلها وطيبة قومها وامتد الحوار بيننا اياماً وقلت له كل شي جرى بين سومر وبغداد ولكناخفيت عنه مشكلة هويتي البغدادية التي كادت ان تضيع في “وعاء الخوص “بين (( الگوشر )) و(( الزمبيل)).