لوحة محمود فهمي وجنود أغنية ( أنا في انتظارك )

لوحة محمود فهمي وجنود أغنية ( أنا في انتظارك )

نعيم عبد مهلهل

1
حين يبتعد الجنوب عن ظلاله ، ولا يسمع موسيقى نبض قلوب النخيل والضفاف المعطر بقدسية الطين وخواطر الآلهة وريشات حمامات بيض سرق دافنشي أحداهن ورسم بها موناليزاه ، ونحن رسمنا مساء بيوت سعال الريف وحلم السفر الى باريس في أول الصيف ، وأشياء اخرى موجودة اليوم في متاحف دفاتر خواطرنا .
من هذا البعيد وسحر ذكرياته في رعشة الأساطير وزقزقات الطير يحاول الجنود أن يتخلصوا من قلق الحياة فيذهبون الى الكتب السماوية والآيات ، فالمعلم المسلم يشتد القصف قرب خندقه الشقي فيستريح على آية الكرسي يتلوها ويتذكر ملامح كل الذي أبقاهم في الجنود يعدون سنابل القمح في حقل أبيه سنبلة سنبلة ، والمسيحي يستنجد بإنجيل وصليب وهو يردد : طوبى للرحماء فهم يرحمون . والصابئي المندائي يمسك قطرات رذاذ التعميد في أناء يمسكه يحيى بن زكريا ويلوذ بثوبه الكهنوتي الساطع البياض ، والايزيدي يكتب أيقونة أرواح أجداده من كهنة معابد شنكال ويطلب رحمتهم .
كل يملك طريقته ليقول شيئا للجهة التي أتى منها ، غير ان الكثير من الجنود بعد تلك الفصول الروحانية المعبأة بالتراتيل ودمعة الحنين يرتدون قمصان الشوق ويذهبون الى المذياع . ولا اعرف لماذا اغلب الذين اعرفهم في سريتنا يتمنون مثل الحظ في بطاقة اليانصيب ما يبث في اخر الليل هي أغنية ( أنا في انتظارك ) لكوكب الشرق أم كلثوم .
هذه المرأة ( أم كلثوم ) جمعت كل حياتنا في حنجرتها . ولنتخيل لأول مرة كيف تصير الحنجرة قنينة عطر ونجعل من الانتظار سلوكاً غامضاً لطرقات أقدارنا بين متاهة ورصاصة غامضة من قناص في الجانب الآخر أو حديث عابر في باص يحمل الجنود وزوار مراقد كربلاء في طريق واحد والسائق يحمل ثمالته في شريط كاسيت ويضع صوت أم كلثوم بوصلة لمساره وجهته …فيغالبنا نعاس من اللذة وتذكر كل الذين هم في قائمة الانتظار.

2
بعد ثلاثين سنة من دمعة شبعاد على كل الجنود الذي لم تنتظرهم الحياة ليكملوا مراسيم أعراسهم وسلمتهم الى عربات الفردوس الكامن في خرائط السماء ، وبعد أن جزع جلجامش في إيجاد خلودا يعيد لذاكرته حكايات طفولته ولحظة شعوره بالبلوغ والنبوغ والألوهية . أتعرف على الفنان التشكيلي العراقي ( محمود فهمي ) .
فنلتقي عند هاجسين ( قصيدتي .ولوحة لبنت في ساحة الحوش تنتظر من تنتظره ، وحتما ما تنتظره وتشغل امنيه اللقاء اليه بالقراءة في دفتر خواطرها ـ قد يكون واحدا من جنود سريتنا ، او غيرهم من الذين يمتدون على سجادة الحرب شظايا وعكازات وبنادق روسية ومعلبات طوارئ وبطانيات ونماذج إجازات وزمزميات ورسائل غرامية حملها السعادة بلذة وخجل دون ان يعرف أمراء الفصائل انها رسائل حب وليست بيانات حرب .
بعد ثلاثين سنة ( يا محمود ) من الحنين الى تلك الأغنية المشحونة بهاجس الحزن والذي من خوفه يئن ، وقسوة الثلج تؤرق حنينه الى الشمس حين لا تستطيع أصابعك ان تحمل كيس الصون او تكتب خاطرة عن بريق العيون الى المرأة تعتقد أن الحرب عندما تعزف مواعيد الإجازات الدورية ستكون هي في انتظارك مثلما تنتظر انتب وتنال في النهاية بطاقة الحظ وانت تسمع المذيع يهاتف نبض قلبك في لحظة التسريح من الجندية : والآن مع كوكب الشرق ام كلثوم في واحدة من اجمل أغنياتها العاطفية : (( أنا في انتظارك )).
بعد ثلاثين سنة من تلك الذكريات المشحونة بعاطفة صمون الجيش ودموع الأمهات وخجل المأمورين وهم يسلمون نعوش الشهداء الى ذويهم ، أتعرف على فنان عراقي ( محمود فهمي ) واعرف أنه كان جنديا مثلي في ذات الأمكنة والأزمنة التي كنا نعتقد فيها أن أغنية ( أنا بانتظارك ) كتبها مؤلها ( بيرم التونسي ) بهاجسين هما الجوع الى الخبز والجوع الى الحب ، وقد تجد بديلا عن الخبز بتناول برتقالتين فتشبع ولكن لن تجد بديلا عن الحب يشبعك كما انتب تتمنى وحبيبتك التي حين هرولت بعد نهاية الحرب الى تلك الأريكة في متنزه المدينة حيث كنتما تلتقيان لتخبرها ان الحرب ذهبت في صناديق الذكرى وانك تسرح وان الدولة ستعينك معلما وبمقدورك ان تخطبها من أهلها ، لكنك لن تجد على الأريكة لحظة انتظارها المشعة بنظرات أنثوية تتفوق على نظرات الممثلة الامريكية شارون ستون في مشهد عال الرومانسية ، وبدلا عن النظرات ستجد ورقة تقول : انها تعتذر وستجد تحت الأريكة بين العشب ووردتين ذابلتين مظروفا كبيرا فيه كل رسائلك التي كتبتها اليها طوال 8 سنوات حرب . وكلام أخير منها في ورقتها يقول :
انتظرتك أطول مما يتحمله أبي ، فأعطاني قبل أسبوعين زوجة الى رجل لديه اربع محلات لبيع العطور ، وسأغرق بالعطر وليس بنماذج اجازاتك الدورية ، وكل ليلة سأتعطر بعطر من اجل ذكرياتي معك ، ذلك عندما يجدني هو ممددة على السرير ، ومع ثمالته يطلب حضنا ولا يطلب عطر . كنت انت فقط من كان يطلب عطرا ، وهذا العطر في أمنيته لم يكن سوى ذكرى ووهما لذلك المستحيل الذي كنت اقلق فيه بين ان تكون دون جوانا لأحلامي او قبرا لشهيد .

3
محمود فهمي لفت نظري في واحدة من لوحاته المتشحة بالزرقة اللذيذة في اغلب فضاءاتها ، وغالبا ما تكون اعماله بنمط متصاعد في تناول تلك الكائنات المؤسطرة بعادات وتقاليد واحلام بيئة بغدادية ولكنها تتجاوز في أخيلة التمتع حدود المكان لتصبح شبابيك حلم لقصص أسطورية وغرامية ، حيث تتحول الكائنات الأنثوية الى اشكال من كوميديا الأجساد المشبعة بلذة الابتهاج بالأحلام وتحويلها الى بسط ريح ويعسوبة تطير وحفلة ممتعة لتناول ( الركي ) او حلم يطرزه الأفندي على سدارته وهو يطلب نظرة من خلف الباب لصبية يشعر انها قد تهواه مثلما تهوى عبد الحليم ، لكنه من هواة سماع ( أنا في انتظارك ) ، فتشعر أن اللوحة عند محمود فهمي هي الزمن في غرامه وأغنيته وبساطته وجماليته وأسطرته.
4
محمود فهمي جعل عالمه استذكارا بصريا ولونيا وغرائبيا الى كل محنة عاشها في جندية الحرب ، ولكنها حتما أفادتهُ روحيا ليذهب عنها في اتجاه معاكس ويلتقيان ثانية في خفايا اللوحة التي تفترش فيها البنت احلام صباحتها في ساحة الحوش وكل الأشياء التي حولها تنبئك انها عاشقة وتنظر.
انه ينقل لنا جمالياته ويلتقي تمامي من دون تخطيط مسبق مع هاجس الأغنية الذي سكنني في اكثر من فصل في رواياتي ، يوم كان مثلي يخاف أن لايكمل حلمه ليكون رساما شهيرا ، مثلما كنت أنا أتمنى ان أكون شاعرا او روائيا شهيرا.
لهذا ، وفاء لحلم مشترك والى اللحظات التي تلونها رغبات الجنود وفطرتهم لتكون ( أغنية أنا في انتظارك ) واحدة من التمائم التي تبعد الموت عن خطوات بساطيلهم الرومانية اعيد هاجس الأغنية وقراءة كلماتها من خلال واحدة من لوحات صديقي محمود فهمي للبنت الجالسة في ساحة المنزل وقربها مسجل الكاسيت السانيو وهي تدير بعاطفة العشق ما تتلوه ام كلثوم الى لحظة انتظارها . المدافع ستصمت وهو سيجيئ .

5
عند عاطفة اللوحة ورومانسيتها حتى مع علبة حليب الكيكوز التي كنا عندما ينتهي منها حليبها البودر نستخدمها لشرب الماء بعد ان نضعه في الثلاجات ليجمد .
حميمة انسانية تغلفها رومانسية لبنت مثيرة في جمالها وإحساسها المثقف ان الذي تنتظره سيرفض ان يجيء اليها بنعش وانما سيجيئ اليها بحضن وقبلة فم ودفترا ممتلئا بخواطر سريالية عن الحب عندما يتحول على مساحات خدها طواويسا وطيور كناري ونوطة كتبها زكريا احمد بخط يده وهو يضع لحن أغنيته الخالدة أنا في انتظارك .
حظ الرسام صديقي جيدا ، فلقد بقيت بطلة لوحته تنظر حتى نهاية الحرب لتسمح لعاطفته بأن يرسم عاطفتها وليس مثلي ، فالتي كنت اسمع من أجلها أغنية ( أنا في انتظارك ) لثمان سنوات فضلت بائع العطر على بائع الرواية والشعر.

(Visited 3 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *