د. احمد مشتت
الجزء العاشر
( رايح للبصرة زيارة قصيرة وارجع بعد يومين).
اجبت منعم الذي كان يحمل حقيبة جلدية للاوراق تحت ذراعه في وسط الممر الرئيسيلمستشفى الكاظمية.
صاير شاعر؟
فاجأني بذلك. طريقته في طرح السؤال وتعابير وجهه الذي كان مطبوعا في ذاكرتي منذعام ١٩٨٦، كانت تشي انه يضمر شيئاً ما وان سؤاله فيما اذا كنت شاعرا مجرد بدايةلتحقيق سريع
في الممر المزدحم بالمرضى والمراجعين. بدأَ السؤال بعينيه اولاً رافعا نظارته المظللة ثم اتىالصوت. مع نزول النظارة على الوجه الجميل الساحر امتدت ذراعه اليمنى لسحبالحقيبة السوداء من الجهة اليسرى وفتح السحاب ومن بين اوراق كثيرة استل صفحة منجريدة الجمهورية مطوية، فتحها وادركتُ انها الصفحة الثقافية وكانت هناك قصيدتي ( افتتاحية المهرج) منشورة بالكامل. وضع منعم خطوط حمراء كثيرة تحت ابيات القصيدةحتى بدا لي انه قد وضع خطا تحت كل بيت. لاشك انه امضى وقتا طويلا ليس استمتاعابالشعر ولكن محاولة لفهم ماتقوله والاهم ما لم تقله ابيات القصيدة بشكل صريح.
اعاد صفحة الاتهام الى حقيبته.
اغلق السحاب.
ومرر الحقيبة تحت ذراعه الايسر بطريقة مدروسة وكأنه يمرر بندقية في استعراضعسكري. عاد الوجه الذي كنت اتحاشاه لمواجهتي مرة اخرى.
لم يمهلني اية فرصة للدفاع او التفسير . وضع سبابة يده اليمنى في اعلى صدريوبصوت لايحتاج الى فرقة عازفين ليصدح
قال:
( من ترجع اريد اشوفك . وتأكد ان ترجع بعد يومين. انت محظوظ وامك تحبك اني مشغولالان وعندي اجتماع بالفرقة الحزبية.) اللغة السافلة لاتحتاج الى اية رتوش.
ظلت سبابته تخترق جدار صدري وهشمت العظم واللحم. منعم لايحتاج الى اسلحةلترويع ضحاياه. نظارته، الحقيبة السوداء واصابعه الطويلة كفيلة باختراق كل حصاناتكو دفاعاتك و ارغامك على الاستسلام.
لاول مرة في حياتي اشعر بالامتنان للفرقة الحزبية التي حرمت منعم من متعة التحقيقمعي بسبب نشر القصيدة التي كان واضحا انها اصابته بالقلق
تخيلت منعم في غرفته يتطاير شررا وهو يقرا الجريدة ويقول
( هذا الصعلوك ابن مدينة الثورة مو كافي خليناه يصير طبيب النوبة يريد يصير شاعرويكتب الغاز).
شكرا من القلب لاعضاء الفرقة الحزبية الذين فازوا بصحبة منعم الحميمة في ذلك اليوم.
تركني وسط الممر وتابعت ظهره الذي ظل يراقبني.
كان قد مر على تاريخ نشر تلك القصيدة اسبوعا كاملا قضيته انا في هلع غير طبيعي.لميكن احد في العراق يعرف انني اكتب الشعر غير اصدقائي المقربين واخوتي.وقبل اسبوعمن مواجهتي الاخيرة مع منعم، دعاني صديقي عزيز بشارة الى نادي اتحاد الادباءالاجتماعي القريب من مركز شرطة المسبح في بغداد.حين وصلنا الى هناك اخذني الىطاولة في حديقة النادي يجلس حولها الشاعر جواد الحطاب والشاعر الشعبي كاظماسماعيل الگاطع. عرفني عزيز على الشعراء وبدانا جلسة شعرية صاخبة. بداها كاظمبقراءة عذبة. ثم طلب مني الشاعر جواد الحطاب ان اقرا قصيدة. تفاجأت وخفت. لم اكناتردد على الوسط الشعري نهائيا وتلك كانت المرة الاولى التي اذهب فيها الى النادي.عزيزبشارة الذي علمت فيما بعد انه هيأ الى هذا اللقاء كان يحتفظ بنسخة مكتوبة لقصيدتيافتتاحية المهرج التي كتبتها من وحي تجربتي في الحرب واستغرقت في كتابتها شهوراعدة في غرفتي بمستشفى الكاظمية بعد انتهاء الخفارات.
حثني جواد الحطاب على القراءة.
قرات بصوت منخفض خوفا ليس الا.
(هل يروق لكَ الوطن؟ حبر الجريدة هائم في دمي. كنت بعض الخراب وكلّه أنت المدينة/ بغداد تكتظ بالقتلى وتنشرهم على حبل الغسيل تجففهم كي تكرر عنف الليلة المنصرمة. يبددني قطار الجنوب في الخاكي ويبعدني. هل يروق لكَ النوم؟) الى نهاية القصيدة.
بعد ان انتهيت طلب جواد الحطاب النسخة الورقية
قال لي:
سانشرها
قلت له لا طبعا هذه القصيدة تهمة جاهزة.
ضحك جواد وقال لي ان هناك محاولة لاصدار كتاب في الاردن عن قصائد الشعراء الشبابفي العراق واراد ان تكون ضمن المجموعة.
في اليوم التالي تفاجات. وانا في مكتبة مستشفى الكاظمية اطالع بعض المجلات الطبيةالتقيت بزميلة طبيبة شاعرة ايضاً ( ابنة شقيقة الشاعرة العراقية نازك الملائكة) تقول لي:
قصيدة رائعة احمد
ماذا؟
كانت تحتفظ بجريدة الجمهورية وهناك في منتصف الصفحة رقدت قصيدتي التي كانتمخبأة قبل ليلة في سرداب الاسرار المعتم.
اقراوا القصيدة وستعرفون حجم المغامرة مغامرتي انا الكاتب ومغامرة الشاعر جوادالحطاب بنشرها في اهم جريدة رسمية تصدر في العراق وكان محرر صفحتها الثقافية.
ان تكتب ضد الحرب والسلطة و تخبىء ماتكتب شيء طبيعي ولكن ان تنشر ذلك في عام١٩٩٤ فهو شيء اخر تماما يقترب من المجازفة بحياتك. قال لي جواد الحطاب بعد اناتصلت به مرعوبا:
(كان يجب ان انشر هذه القصيدة، الناس لازم تقرا شيء مغاير لما ينشر ولا تخاف انياتحمل المسؤولية مباشرة لان اني محرر الصفحة الثقافية ، آني اشرح القصيدة اذا احدمن الرفاق الحزبيين انتبه واستفسر).
لاشك ان منعم قضى وقتا عسيرا كي يفهم كيف مررت القصيدة الى جريدة رسمية بهذهالسهولة وخطوطه الحمراء تحت ابيات النص المنشور كانت تشبه الى حد كبير خطوطهالسوداء في ملفي اثناء مقابلة المعيدين عام ١٩٨٦.
يتبع.