صليب من القصب   … نعيم عبد مهلهل

صليب من القصب … نعيم عبد مهلهل

 

نعيم عبد مهلهل

«لا يهمكم من أي مادة يصنع الصليب، حتى لو من قوالب الحلوى، فالصلاة أمامهسيسمعها الرب والمسيح معاً»

هذه المقولة سمعتها من فم قس في ساحة الفاتيكان، أحملها الآن على أديم الذكرى وأناأنقل أجفاني بين مساءات أنهر التعميد الخالدة (الفرات، السين، والراين) فتحضرنيذكريات المكان وطقوسه، منذ أن صعد المسيح صليب الألم وحتى اليوم.

فقبل يومين كنت على ضفاف السين أعيد قراءة قصيدة الشاعر الفرنسي غيوم أبولينيروعنوانها (السين يجري تحت جسر ميرابو)، فيما أقف بلحظة أخرى على ضفاف نهرالراين في مدينة كولن ليجري تحت أجفاني، في يوم ذهب بها أهل البلد إلى الكنائس؛ لأنهيوم قيام المسيح، فيما ذهبت أنا إلى عيون أمي وجامع قلبها، وإلى تلك الأمسيات الرائعةعلى ضفاف الماء الذي تنتصب فيه أعواد القصب مثل صلبان تنتظر نذور البشر هناليعيشوا مع أحلامهم البسيطة في بيئتهم البسيطة التي رابع ثالوثها هو السمك حيثيجتمع الطير والقصب والماء، ليهيئوا لنا الظهاري الهادئة لغفوة الجواميس ولسماعالطور المجراوي والصُّبيِّ الذي ينشد به الرعاة والصيادون، ويختلط الآن مع أدعية وتراتيلالذين يصلون داخل كنيسة (الدوم) في كولونيا القريبة من النهر من الراين.

وأنا بين النهر والعلو الشاهق لأعلى كنائس أوروبا أضع للذكريات بيوم قيامة (يوسسز) صورة (وديع) المعلم المسيحي ابن مدينة البصرة الذي عينوه ونقلوه إلى مدرستنا ليقضيفيها ثلاث سنوات حتى يُنقل إلى مدينته.

كنا نحترم طقوس وديع ونهنئه بأعياده، وفي يوم القيامة المجيد حيث يتأمل وديع صفحةالماء، ويتمنى أن يجلب صليباً أكبر من الصليب الفضي المعلق في قلادة صدره ليحتفيبصعود روح المسيح لتجاور الرب حية وإلى الأبد.

فلم يجد صليب الخشب، واقترح عليه بعض الأصدقاء أن يذهب إلى الجبايش ليعمل لهواحد من النجارين صليباً، لكنه ارتعب من الفكرة، فلم يتعود أهل الجنوب ليعملواشاخصاً لغير ديانتهم وحتماً سيرفض، لهذا تركنا وديع يتلو صلاته وهو يمسك صليبالفضة الصغير المتدلي من صدره، فيما تمتد أمامه أعواد قصب البردي بانتصاب، ولكن لميُصلبْ عليها سوى الريح وضوء شمس تغرب، ورعاة يعودون، ولم يلفت انتباههم صلواتالمعلم المسيحي، والتي قطعها شغاتي فجأة حين وقف خلف المعلم وناداه: الآن جلبت لك ياأستاذ وديع ما يجعل صلاتكَ مكتملة، وسيرضى عنك ربكم الذي هو ربنا أيضاً.

وحين التفت وديع ليفاجَأ بما لم يتوقعه عندما رأى شغاتي يحمل صليباً من القصب بطولمترين صنعه بيديه بعد أن سمع عن محنة وديع في الحصول على صليب من الخشب.

ابتسم ودمعت عيناه، وعانق شغاتي وهو يهمس له:

شكراً أيها الرجل الطيب. الآن أستطيع أن أكمل صلاتي……!

 

(Visited 8 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *