عبدالسادة البصري
ذات يوم كنت اجلس في صالة الانتظار في مستشفى الموانئ العام في البصرة ، عندمادخل علينا شاب في عقده الأربعيني وأخذ يوزع علينا قصاصات مكتوب فيها : ( أنا أصموأبكم وعندي زوجة وأطفال ، وأنا بدون عمل أعيش منه ، أطلب معونتكم لي بما تعطوننيمن نقود كي أسدّ به رمق عائلتي من الجوع..) أعطاه بعض الجالسين واخرون اعتذروا ،بعدها قام بجمع القصاصات وخرج من المكان !.
ساعتها سرحتْ بي ذاكرتي حيث أقاصي جنوب الوجع ، في مدينتي الفاو ، قبل أكثر منأربعين عاماً كان أحد أبناء جيراننا أصم وأبكم ، كنا ننادي عليه ( علاّوي الأخرس ) ،، يلعبمعنا الكرة ويسبح في النهر وكان يعرف كتابة اسمه بالكامل ، بعد أن كَبُرَ تم تعيينه فيميناء الفاو ليعيل عائلته ، ثم تزوج وأنجب واعتقد انه صار جداً إن لم يكن قد رحل عندنيانا ،،كما كان هناك ــ اقصد في الفاو ــ رجل أخرس ضخم الجسم طويل القامة اسمه ( عيسى ) كان يشتغل في معمل الثلج ، كنت أراه حين أذهب لشراء الثلج لأهلي كل يوم ،وهو يمسك مفتاح آلة تشغيل الثلاجة وتحريك قوالبها ،،كان عصبياً وغاضباً في أغلبالأحيان لكنّه طيّب القلب جداً ، ما إن يراك لا تستطيع رفع قالب الثلج لصِغَر سنّك حتىيبادر برفعه وحمله الى دراجتك الهوائية لتأخذه وتمضي ،
عيسى الأخرس هذا اشتغل في أكثر من مكان واستقر أخيرا عاملاً في الميناء ، التقيت ابنأخته بعد سنين( في الثمانينات) في السجن ، ليخبرني بأنه تزوج وأنجب وصار جدّاً. تمنيت له الصحة وطول العمر لكنني فوجئت بابن أخته يخبرني قبل سنتين من خلالصفحات التواصل الاجتماعي بأنه مات !
استذكرت علاّوي وعيسى الأخرسين لأقول انّ العاهةَ لم تثنِ أحداً عن العمل مهما كان، بدلاًمن التسوّل وبطريقةٍ من الممكن أن تكون تمثيلاً ، وهنا لا أريد إدانة الشاب الذي دخل علينامتسولاً في المستشفى ، بل أدين من جعل هكذا شباب يلجؤون الى طرق تحطّ من كرامتهملغرض استحصال لقمة العيش بسهولة؟!
من الممكن أن يكون هذا الشاب وأمثاله من الصم والبكم، رجالاً نافعين لأنفسهم وللمجتمعلو أتيحت لهم فرص التعليم والعمل !
ففي كل دول العالم هناك مدارس ومعاهد لتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة ، بحيث تجدهمفي منأى عن هكذا مواقف! إضافة الى فتح ورش لتعليمهم مهناً ستنفعهم مستقبلاً . اذكررجلا اخرس كان من أفضل الميكانيكيين في إحدى الشركات ، وكذلك اعرف خياطاً، وعلينا أننتذكر عباقرة في الموسيقى كانوا صُمّاً!.
ما الضير إذا فتحنا لهم جمعيات ومنتديات ومعاهد لتعليمهم وجعلهم صالحين بدلا من أنيكونوا عالة على ذويهم ومجتمعهم ، حيث الكثير منهم يتسوّل في الأسواق والمقاهي؟!
أما آن لنا أن نفكر بمستقبل ناسنا مهما كانوا؟!
أليس لهم حق علينا نحن كمسؤولين ؟!
الانتماء الحقيقي للوطن والناس هو التفكير بخدمتهم وإسعادهم حياتيا ــ ولا أقصدالمعاقين فقط. فليس الانتماء أن نفكّر بأنفسنا وعوائلنا وأقاربنا فقط ونترك الآخرين كيفماعاشوا ويعيشون ، بل علينا أن نصغي لصوت المواطن وهو في حراكه الجماهيري الذياستمر لأكثر من سنتين ومازال يطالب بالإصلاح وإحقاق الحق وتخليص الوطن والناسمن آفة الفساد والنهب التي أكلت الأخضر واليابس وعاثت في ربوع الوطن ونفوسالبعض خرابا ؟!