أ. د. نجاح هادي كبة/ بغداد
تتصل الحضارة والثقافة بعضها ببعض عبر التأريخ في الفنون والعلوم والعمران والبناءوغيرها من مناحي الحياة ولاسيما في الرقعة الجغرافية الواحدة اتصالاً جزئياً أو كليّاً،وهذا ما تعكسه العلاقة بين الفن الرافديني والفن العربي في عصر ما قبل الاسلام، وعلىالنحو الآتي:
1- في فن التماثيل: عرف العرب في الجاهلية فن التماثيل ولاسيما في المناطق الحضريةكاليمن (فقصر غُمْدان الذي كان عند مدينة صنعاء، كان من القصور السامقة الرائعة، وقدبقيت آثاره وأطلاله حتى القرن الرابع للهجرة – أي القرن العاشر للميلاد – وكان فيهعشرون طبقة بين كل طبقتين ارتفاع عشر أذرع، وكان فيه ساعة مائية، وفي كل ركن منأركانه تمثال نسر ورأس أسد، وأكثر مرمره مُملّس ملمّع وفيه يقول الشاعر الهمداني:
يسْمو الى كَبِدِ السماءِ مُصَعَّداً |
عشرونَ سَقْفاً سُمْكها لا يقصرُ |
|
وبكلِّ ركنٍ رأسُ نَسْر طائرٍ |
أو رأسُ ليثٍ من نحاسٍ يَزأرُ |
|
متضمِّناً في صدره قطارةً |
لحسابِ أجزاءِ الزمانِ تقطِّرُ |
فأما الاسود التي أشار اليها الشاعر، فكانت رؤوسها من نحاسٍ مجوّفة فاذا هبّت الريحعليها دخلت في أجوافها فتحدث زئيراً كزئير الأسود.
(( د. مصطفى جواد، دراسة وتحقيق، حسين محمد عجيل، بغداد، دار الشؤون، 2021م،ص112 ))
وفي عصر ما قبل الاسلام (عثر على عدد من تماثيل الحيوانات نحتت من المرمر، ومنأحجار أخرى، فعثر على تمثال بقرة وعثرت بعثة
(وندل فيلبس) على تماثيل ثيران في خرائب مأرب، كما عثر بعض الباحثين على تماثيلأسود أو خيل).
(( د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، آوند دانش، ج8، ط1، 2006م،ص28 )) بتصرف. وقد ولع الرافدينون بفن نحت التماثيل (فقد وصلتنا من عهد جمدة نصرمجموعة من الأحجار الصغيرة المنحوتة بهيئة حيوانات وطيور مختلفة، يشير نحتها فيالتعبير والتمثيل إلى مهارة فنيّة في المشاهدة وتناسب في الأعضاء… بلغ الآشوريون فينحت الحيوانات حدّ الكمال … وقد ولع الآشوريون بنحت التماثيل الضخمة من الحجربعضها يمثل أشخاصاً من بينهم الملوك أنفسهم وبعضهم يمثل الحيوانات الضخمةولاسيما الثيران المجنحة التي تُرى مليئة بالحياة والجلال … وقد استخدم الآشوريونالمعادن أيضاً في صناعة التماثيل فقد عثر على تمثال أسد من البرونز في قصردورشروكين، كما وجدت سباع برونزية أخرى في النمرود) (( د. سهيل قاشا، عراق الأوائل،العارف للمطبوعات، بيروت، ط1، 2010م، ص152 – 153 )). (وكان عرب اليمن أول منصنع تماثيل الأسود من العرب، فقد وجد في خرائب (تُمْنَع) من بلاد اليمن تمثالا أسدينوعلى قواعدهما كتابة قتبانّية بالخط المسند، وقد ذكرنا تماثيل الأسود التي كان قصرغُمْدان مزيَّناً بها. ووجد في آثارهم أيضاً أسد مجنح منحوت على لوح من المرمر، وهومحفوظ في التحف في إستانبول) (( د. مصطفى جواد، المصدر السابق، ص118)). وقدساعدت أرض اليمن بما فيها من معادن وحجر وطين وغيرها من المواد الاولية على تطورالفنون في اليمن والتفنن بها.
2- في فن البناء: فن البناء يشمل فروع متعددة (كهندسة المدن والقصور والدور والحصونوالقلاع والمدارس والمساجد والمعابد والخانات والرُّبُط والتكيّات والحمامات والجسوروالقناطر والسدود والشاذروانات)
(( د. مصطفى جواد، المصدر السابق، ص111 ))
ويبدو التقارب في فن البناء بين الفن الرافديني وفن عصر ما قبل الاسلام في الهندسةالمعمارية للبيوت إذ يقسم البيت الى عدة أقسام أو طوابق كل قسم مختص بوظيفة معينة،ففي عهد تركز الحكم لدى سلالات معينة في بلاد الرافدين كانت قصور السكن للحاكم اوالملك في بلاد الرافدين تتكون من اقسام عدة هي:
1- قسم الاستقبال والتمثيل الحكومي. 2- القسم الخاص، وهو عبارة عن سكن الملك. 3- قسم الخدمات. ويلاحظ ان هذه القصور تحاط بسور خارجي وتبنى أحياناً على مكانمرتفع/ والآشوريون يختارون القصور في موضع ستراتيجي مُحصّن على هيئة قلعةوللقصر فناءان، الأول، هو فناء المدخل (بابانو) الذي تحيط به فراغات التمثيل الحكوميوالثاني فناء القصر (بيتانو) حيث يقع مسكن الملك والملكة. (( عن الانترنيت، بتصرف e.muffed.com.erjart )).
ويتخذ بناء القصور في الجاهلية تقسيم البيت الى أقسام عمودية كقصر غُمْدان – المارالذكر – وقد يقسّم الى طابقين علوي وسفلي، فالطابق الارضي تخزن فيه الميرة وما يحتاجاليه، وكذلك الماشية، اما الطابق الثاني او ما بعده فيتخذ مسكناً لأهل القصر ويدافع عنهمن السطح. (( د. مصطفى جواد، المصدر السابق، ص28، بتصرف )) وسواء أكان البناءعمودياً أو أفقياً فأن لكل قسم من اقسام البناء وظيفة معينة وهذا يدل على الرقيالحضاري في الفن العماري في بلاد الرافدين وفي عصر ما قبل الاسلام.