لا تكتب…لا تفكر / د. احمد مشتت

لا تكتب…لا تفكر / د. احمد مشتت

د. احمد مشتت

(اكتبوا ما تشاؤون ومايخطر ببالكم )

هكذا اصدر استاذ اللغة العربية البصيراستاذ نهاد توصياته لنا وكنا في المنتصفالثاني للصف الرابع اعدادي في اعدادية قتيبة والعام كان ١٩٧٦.

كانت رسالته واضحة ولم نجرؤ المساس بصرامتها والتشكيك بوضوحها.

(اريد الكل تكتب موضوع الانشاء ويكون كامل يوم الاثنين).

واضاف وهو يقول الجملة الاخيرة حزماً عهدناه في صوته الرخيم الذي من السهل وفيلحظة معينة ان يتحول الى صوت مخيف.

رغم ان الاستاذ نهاد كان بصيراً لكنه كان  يعرف مايدور في الصف وماذا يتم من مؤامراتعلى منصات الرحلات المدرسية المشاغبة في الجزء الاخير والمغمور والذي يقوده اكبرالطلاب حجماً وسناً.

سامنح درجة مهمة على الموضوع

زاد من اهمية الحدث ومنحه الهيبة التي لن نستطيع مقاومتها.

ذهبت الى البيت و بدأت كتابة موضوع الانشاء

كانت هذه اول محاولة لي لاستنطاق اللغة العصية والتحليق في فضاء المخيلة.

و بدأت هكذا:

(تبقى الارض هي الارض ويبقى الانسان هو الانسان). اتذكر تلك البداية جيداً رغم اني لماحتفظ بمخطوطة موضوع الانشاء تلك لكني اتذكر تفاصيل ماكتبت. كتبت قصة وملخصالقصة ان بلاداً ما لم اجرؤ على تسميتها ولكن هذه البلاد تدخل حرباً في زمان سحيقويقرر والي البلاد ( للتأكيد على ان الاحداث تجري في زمان غير الزمن الحاضرخشيةالتفسير الامني الذي كنت افكر فيه ) يقرر الوالي استدعاء الموتى للمشاركة في الحربلانها استنفذت الاحياء. يستدعى بطل القصة الى الحرب. اثناء رحلته من الموت الىمدينته القديمة لايميز البطل ملامح المدينة ولاملامح واخلاق الناس. يشعر بالصدمة ممارأى ويقرر اعتزال الحرب والحياة الجديدة ويعود الى موته.

كنت ارتجف وانا اكتب. وحين انتهيت من كتابة القصةموضوع الانشاء احسستُ باننيقلت شيئاً ما واحتفلت بقراءة القصة بصوت عالي امام المرآة.

حين بدأنا درس اللغة العربية يوم الاثنين المعهود جاء الاستاذ نهاد بكامل الاناقة ووقف فيمقدمة الصف كأي قائد اوركسترا موسيقية واذن بافتتاح الدرس :

(من يقرأ موضوعه للانشاء امام الصف)

كان قريبا مني وبدون تردد طلب مني ان اكون العازف الاول.

قرأت موضوع الانشاء قصتي بحماس وبعاطفة انتقلت الى صوتي من احساسيبالخوف على بطل قصتي.

وانا انتهي من القراءة كان الاستاذ نهاد قد وقف بقربي تماما ووضع يده على كتفي

كان لايحتاج ان يقول اي شئ لان لغة جسده التي تفاعلت مع قرائتي لموضوع الانشاءانبأتني انه تاثر كثيراً.

احسنت

قال لي. يجب ان تستمر بالكتابة يابني. انت مشروع اديب.

اختفى سقف الغرفة فجأةً ولامست ُسماءاً زرقاء صافية وغردت في قلبي عصافير نائمةايقظتها شمس دافئة.

لم ينتهي اليوم على خير وانا في لحظة انتصار نادرة على الضنك.

في الفرصة التي تلت درس اللغة العربية استدعاني مكتب الاتحاد الوطني لطلبة العراقفي اعدادية قتيبة للتحقيق.

كان قائد فريق المحققين الرفيق غالب الذي كان زميلي في الصف الرابع. جلست في غرفةمظلمة ورطبة وفيها كل مواصفات غرفة تحقيق عراقية

كان السؤال الاساسي:

هل ترمز احداث القصة الى زمن الثورة؟ ورفض البطل الى العودة هل هو رفض للحياةالتي اسسها الحزب القائد؟

وماهو انتماء بطل القصة العقائدي

ولماذا لم اكتب عن الزمن الجميل؟

والاهم ماهو دافعي لكتابة القصة؟

انتهى التحقيق بتهديد واضح من قبل الفريق الامني الذي شكل بلمح البصر لخطورةالموقف:

لاتكتب.

لاتفكر.

لاتطرق باب الاسئلة.

وسمحت السلطة القسرية لنفسها المكوث في دمي طويلاً.

(Visited 28 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *