محمد عبد الجبار الشبوط || كاتب عراقي
الانتخابات هي الحد الادنى للديمقراطية. والديمقراطية، حسب تعريفي لها، هي نظام محايد لتداول السلطة سلميا ودوريا عن طريق الانتخابات. وكلمة “محايد” تعني ان الديمقراطية لا تضع وصفا ايديولوجيا مسبقا للنظام السياسي. بل تحيل الامر الى الناس ليختاروا ما يشاؤون دون الدخول في صراعات عقائدية او ايديولوجية، كما كان يحصل على سبيل المثال في العراق بعد اقامة النظام الجمهوري في ١٤ تموز عام ١٩٥٨. ويمكن ان يكون النظام الديمقراطي رئاسيا او يمكن ان يكون برلمانيا. والامر يعتمد على خيارات الجمهور.
والديمقراطية هي الشرط الثاني او الاساس الثاني للدولة الحضارية الحديثة. وعليه لا يمكن الحديث عن اقامة الدولة الحضارية الحديثة قبل ارساء الديمقراطية وترسيخها في المجتمع.
وقد قرر الدستور العراقي في المادة الاولى منه ان نظام الحكم في الدولة العراقية “جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ”. فهو جمهوري وليس ملكيا، وبرلماني وليس رئاسيا، وديمقراطي وليس دكتاتوريا. وقد تم اقرار هذا الدستور باستفتاء عام ٢٠٠٥ ويفترض ان ابناء الشعب كانوا على بينة بما في الدستور. لكن مجموعة الاحزاب التي تقاسمت السلطة بعد عام ٢٠٠٣ لم تكن احزابا ديمقراطية، ولم يكن بوسعها بناء الديمقراطية بعد ٣٥ سنة من الدكتاتورية والحكم الفردي وعبادة الشخصية، فانطبقت على هذه الاحزاب عبارة “ديمقراطية بدون ديمقراطيين”. لهذا شابت العملية السياسية الكثير من العيوب الى ان انتهى بها الحال الى الخروج من قائمة الدول الديمقراطية في العالم والتي تنشرها مجموعة “الايكونوميست” البريطانية.
وقد شوهت هذه الممارسة صورة الديمقراطية في اذهان عدد كبير من العراقيين الذين وقعوا بعدة اشتباهات سياسية منها:
اولا، توهم أن الديمقراطية نظام سيء بذاته، وبما انه ليس هناك بديل اخر مقابل لها سوى الدكتاتورية، فصار هؤلاء يفضلون الدكتاتورية على الديمقراطية، وفي احسن الاحوال يرغبون بشيء وهمي غير موجود اسمه: المستبد العادل.
ثانيا، غاب عن اذهانهم ان جوهر الديمقراطية هو المشاركة الشعبية، والتي نص عليها الدستور في المادة ٢٠ حيث تقول: “للمواطنين رجالاً ونساءً، حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح.”. ومن صور المشاركة المجالس التمثيلية، مثل مجالس المحافظات، فصار قسم من الناس يدعون الى الغائها، متأثرين بسوء ادائها وفسادها، دون ان يعلموا ان الغاءها والغاء ما يماثلها يعني تقليص مساحة المشاركة الشعبية.
ثالثا، وبسبب سوء اداء البرلمان وفسادها، نقم الناس على النظام البرلماني، وصاروا يطالبون بالنظام الرئاسي، وكلا النظامين ممكنان في النظام الديمقراطي، ولا علاقة لهما بالفساد وسوء الاداء الذي يمكن ان يحصل في النظامين، لان اسباب الفساد وسوء الاداء تكمن في اماكن اخرى اختصرها القران الكريم بقوله:”ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”.
رابعا، وفي سياق الاندفاع نحو المطالبة بالاصلاح صار بعض الناس يطالبون باجراءات غير ديمقراطية وهم يحسبون انهم بذلك يصلحون النظام السياسي الامر الذي يجعلهم ضمن “الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”.
فاتت هؤلاء قاعدة جوهرية في علاج عيوب النظام الديمقراطي، وهي ان اصلاح هذه العيوب يتم عن طريق المزيد من الاجراءات والخطوات التي تعزز الديمقراطية لا ان تضعفها. الاصلاح السياسي يتطلب المزيد من الخطوات باتجاه الديمقراطية، لا بالتراجع عنها والنكوص الى الوراء، اي تقليص المشاركة الشعبية والعودة الى اشكال مبتدعة من الدكتاتورية.
لا يمكن اقامة الدولة الحضارية الحديثة بدون المزيد من الديمقراطية. وكلما قللنا من كمية الديمقراطية نكون قد تراجعنا خطوات بعيدا عن الدولة الحضارية الحديثة.
يبقى ان اقول ان شرط الديمقراطية الاول هو المواطنة، المواطنة الواعية الفعالة. والامران، اي المواطنة والديمقراطية، هما الركيزة الاولى والثانية للدولة الحضارية الحديثة.