بقلم : لقمان عبد الرحيم الفيلي
حاجة المجتمع العراقي الى دراسة أسباب تراجع قيمه وأخلاقه، والعمل على إصلاحها،
لعل المراقب الأجنبي للمشهد العراقي يتساءل مع نفسه عن أسباب الخلل في طبيعة النكبات والأزمات وتراكمها التي تواجه المجتمع برمته. قد يرى من جهة انسداد سياسي أدى الى شلل الأجهزة التشريعية و التنفيذية، ومن جهة أخرى يجد نقصاً في تشريع قوانين مهمة وحيوية في تطبيقاتها، أو يواجه فهم نخبوي ضعيف لمستلزمات المنظومة المدنية الديمقراطية المتعارف عليها، وغيرها من أزمات واثارات مجتمعية وحكومية متعددة نراها تناقش على شبكات التواصل الاجتماعي او نعيشها على أرض الواقع في حياتنا اليومية.
هنا قد يعزو المراقب الأجنبي ذلك لعدة اسباب منها حداثة النظام السياسي، والتركة التي ورثها عن النظام السابق، أو الزيادة السكانية غير الطبيعية للمجتمع، او المتغيرات الجيوسياسية الكبيرة في منطقة هشة في اصلها، او الضعف الواضح لمؤسسات الدولة والمجتمع أو او ..الخ. وقد يرجع البعض الخلل الى الأعراف الاجتماعية غير البناءة، أو هشاشة منظومة التشريعات وتضاربها، وبالتالي، ضعف نسيج الدولة ومؤسساتها ولا يجد هؤلاء خللاً كبيراً في البوصلة الأخلاقية للمجتمع.
ولكن دعونا نحن كعراقيين نتساءل ونتصارح ونتكاشف عن أسباب الخلل وعمق تلك الأسباب: أهي طبيعية وجزء مهم وضروري من مخاض تطور مجتمعي؟ ام هي أسباب شائكة ومعقدة ومتداخلة وتحتاج الى وقفة مجتمعية ونخبوية حقيقية لتشخيص مكامن الخلل، وكيفية وضع البرامج الاصلاحية الكفيلة بمعالجته؟ أي هل نحن على المسار الصحيح ونحتاج فقط الى وقت وظروف مناسبة ستأتي حتما لمعالجتها؟ أم ان أسباب الخلل أعمق وترتبط بأسس المجتمع. وان الزمن لا يخدمنا هنا بل يفاقم عمق الخلل الذي نواجهه سويةً؟ ولعل السؤال يظهر هنا مدى اهمية المعالجات الثورية او الاصلاحية، فهل جسدنا العراقي المتعب يتحمل متغيرات ثورية سريعة وعميقة؟ ام سنحتاج الى رعاية واصلاحات مرحلية عديدة ودقيقة ومؤثرة؟
شخصياً، أرى بان أهم أسباب المشكلات وجذورها مرتبط بالخلل الذي أصاب قيم المجتمع ومتانتها وصحتها، وأن البرامج التصحيحية التي وضعها المجتمع والتشريعات الحكومية، لم تعالجها بل زادتها تعقيداً، فمن حيث نشعر او لا نشعر، تم تهميش القيم المهمة من يومياتنا وأصبحنا نتعامل مع الخلل كجزء طبيعي وحالة قابلة للتعايش معها، بل قد نشمئز ونستغرب عندما نرى المجتمعات الأخرى لا تواجه هكذا مشكلات ونكبات يومية وفي القطاعات المجتمعية المختلفة. ومن منطلق تجربتي كسفير، عشت وتفاعلت ولازلت في دول ذات ثقافات مختلفة عن ثقافتنا، أرى الكثير من المغتربين او المبتعثين العراقيين يشتكون من مدى التزام المجتمعات المتطورة بتطبيق النظام، ويعتبرونه حالة غريبة وغير طبيعية، وأن الإنسان في هذه المجتمعات يحتاج الى غنى الروح والتنوع والثورة والحياة!!
وهنا يأتي السؤال الجوهري، ما هي القيم التي نعتبرها ضرورية واساسية والتي لن نستطيع العيش بحالة صحية من دونها؟ أي ما هي الخطوط الحمراء التي سوف لن نقبل للسياسي والطبيب والمعلم ورب العائلة ورجل الدين والامن والقانون ووو ..الخ بتجاوزها؟
ولعل السؤال الآخر المهم هو: لماذا نحتاج أن نركز على القيم من دون غيرها من المستلزمات الأساسية للمجتمع السليم الحضري؟
القيم هنا تعطينا كأفراد ومجتمع خصائص إيجابية ذات أهمية كبيرة تساعدنا على أن نكون أفضل على المستوى الفردي والاجتماعي. فالأفضلية هذه تأتي عندما تكون لنا معايير سليمة مترابطة ومشتركة كمجتمع، هذه المعايير تعتمد على العدالة والسلام والصدق والشعور بالمسؤولية والإيمان بالحرية والتسامح والولاء للوطن واحترام الكرامات والارواح ..الخ. فهي البوصلة التي تدلنا كيف يجب أن نتصرف: نقبل أو نرفض المفاهيم الجديدة. وتوضح أسباب رفضنا لبعض المفاهيم القديمة المشينة. خلاصة القول أن تمسكنا بالبوصلة المذكورة كمبادئ مجتمعية هي المعيار الحقيقي للتباين أو التشابه بين مجتمعنا والمجتمعات الأخرى.
بلدنا العراق.. بلاد الرافدين.. مهد الحضارات ومهبط الرسالات وعلى أرضه تطورت البشرية انسانياً وعلمياً وفكرياً واخلاقياً، ومنها تعلمت الشعوب الاخرى علوم القانون والرياضيات والعدالة والحضارة….الخ، فهل يا ترى يصعب علينا ان نراجع ادائنا، كلٌ من موقعه، صغر او كبر، وان نخلق فضاءات ومنابر للحوار، ونتفق على مفردات قاموسنا القيمي ومعانيه واثاره ومشاريعه لكي ننشئ معاً معادلة نعرف بعدها بان الزمن معنا، واننا على المسار الصحيح، وان التضحيات والجهود سوف لن تذهب سدى.
التحدي القيمي الذي نواجههُ كبير لكل واحد منا، ولكن امكانيات بلاد الرافدين متنوعة وغنية، وتراثنا الفكري والحضاري كنوز نحتاج أن نستكشفها ونجدد مفاهيمها، وتطلعاتنا كبيرة بعمق تاريخنا، وهذا من حقنا ورد فعل طبيعي وصحي لما عانيناه من اضطهاد وظلم. جراحاتنا لن تندمل ما لم ننجح بهذا الامتحان العسير ونجتازه معاً.
يروى عن غاندي قوله: “يوجد سبعة أشياء تدمر الإنسان : السياسة بلا مبادئ، المتعة بلا ضمير، الثروة بلا عمل، المعرفة بلا قيم، التجارة بلا اخلاق، العلم بلا إنسانية، العبادة بلا تضحية.”
وصدق رسول الله (ص) بحديثه الشريف: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
لقمان عبد الرحيم الفيلي
برلين – 2022/6/4